القلم للثقافة والفنون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
القلم للثقافة والفنون

( قَلمُنا ... ليس ككلِ الأقلامْ ، قَلمُنا ينطقُ ثقافةً وينزفُ صدقاً ويشجع المواهبَ ليخلقَ الإبداعْ )


5 مشترك

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25947
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى السبت فبراير 27, 2016 11:02 am

    [img]كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Ua13[/img]
    ـ 11 ـ
    اكبر من سنوات عمره
    أذا كانت النبوءة الأولى لزملاء وميض قد فشلت وهي هل يدرك الحب يوما .
    نعم فشلت حين بدأ بأول علاقة والتي تحدثنا عنها سابقاً أما نبوءتهم الثانية التي أطلقوها وهي ( سيشيخ قبل أوانه ) لأنه محملاً بهموم الأمة العربية وقضاياها ويبذل جهدا في هذا الميدان .
    ترى هل ستتحقق نبوءتهم الأخيرة ( سيشيخ قبل أوانه ) بحق زميلهم وميض ؟ .
    في عام 1979 بلغ وميض من العمر ثلاثة وعشرين عاما وهو شابا مفعما بالحيوية والنشاط ويومه وساعاته مقسمة بين العمل والدراسة والكتابة التي لا تفارقه أبدا ويكاد جيبه لا يخلو من صديقه القلم ودفتر جيب صغير يثبت فيه ملاحظات ومسودات ما سيكتب ، كانت الكتابة هي هاجسه الوحيد بدء كتاباته بالسياسيات ثم حين عرف قلبه الحب بدأ بالغزليات وتوزع جهده الكتابي بيم هذا وذاك ، كان منشغلاً بالهم العربي والأزمات العربية وكأن هذه الهموم تأكل من ريعان شكله الخارجي وبدأت هذه الهموم بترك اثر واضح على ملامح الرجل .
    القلم ... وفنجان القهوة صديقاه الوحيدان في مجلسه يكتب بغزارة ويرتشف القهوة العربية بغزارة اكبر وكان عدوه اللذوذ هو الشاي الذي ترك شربه منذ اوائل السبعينات ، كان قلمه يصدح دائما للوطن العربي والشعب العربي ثم بدأ يصدح للحب وللهم العربي فيقينا حالة القلق والابداع والكتابة ستفعل فعلها في تقاسيم وجه الرجل ,
    عام 1979 توجه إلى منطقة الاعظمية يروم الذهاب الى ستوديو حنان الكائنة في راس الحواش لأستلام صوره . ارتدى قميصه الأصفر ذو الكتافيات والجيبين الاماميين . وارتدى بنطلونا بني فاتح اللون وحمل حقيبته الدبلوماسية سوداء اللون وتوجه إلى حيث يقصد وما أن دخل الأستوديو شاهد فتاة فارعة الطول ترتدي رداءا ابيضا وتنوره رصاصية اللون فعرف أنها طالبة جامعية لان الزي هو زي الجامعات الرسمي في العراق ، دخل الاستوديو وادى التحية على صاحبها ، استدارت الفتاة وردت السلام هي الاخرى مصحوبا بأبتسامة رقيقة جميلة اثارت انتباه وميض
    ـ الفتاة : شلونك استاذ
    ـ وميض :الحمد لله ( ببرود ولا مبالاة )
    ـ الفتاة : شنوا أستاذ معرفتني اني طالبة عندك بقسم الفيزياء كلية العلوم
    ـ وميض : انتِ واهمة ... يخلق من الشبه أربعين
    ضحكا برقة ووداعة ، ثم بادره صاحب الأستوديو وهو يجلب الصور الشخصية له ، لقد تجاوزت الخامسة والثلاثين عاما من العمر يا وميض ، ماذا ، اقصد عمرك ، لا أبدا عمري ثلاثة وعشرين عاما فقط .
    تعجب صاحب الأستوديو والفتاة أ يعقل هذا أمبين عليك الكبر يبدو بفعل الإرهاق ، اخذ وميض صوره مودعا الفتاة وصاحب الأستوديو وهو يردد مع نفسه اثنا عشر سنة إضافية أضيفت لعمرك يا وميض ، لقد كبرت يا وميض وترك الهم العربي آثاره عليك وأخذت التجاعيد طريقها لوجهك وبدأ الإجهاد واضحا على بشرتك فهل هي ضريبة من يعيش الهموم وما أكثر همومنا أمس واليوم وربما غداً .
    تذكر وميض حديث أصدقائه ( سيشيخ قبل أوانه ) نعم تحققت نبوءتهم هذه المرة ، لقد صدقوا الرؤيا فهل يتعظ وميض من هذا الدرس ؟ .
    هناك أمور كثيرة تدعوا وميض لعدم ترك الهم العربي والكتابة أذن سيبقى وميض يعاني من كبر العمر الذي يراه الناس في ملامح وجهه فهو لم يكترث كثيرا لهذا الموضوع لان حياته الشخصية تأخذ المرتبة الثانية من اهتماماته والمرتبة الأولى هي للهم العربي والوجع العربي والشعب العربي وللحب الذي دخل قلبه .


    ـ 12 ـ
    هذا ما ورثناه منكم
    كان وميض في عنفوان الشباب قلبا وروحا أما جسدا فكان يبدو عمره أكثر من ذلك بسنين وذلك بسبب الهم العربي الكبير الذي يحمله وربما بسبب الحب الكبير الذي جاءه متأخراً للفتيات ، كان يكتب لكلا الهمين . سياسياته وغزلياته معروفة لأقرانه وأقربائه وكأنه كان يحاكي فيهم نخوة المعتصم من اجل أن ينتفضوا لفلسطين قضية العرب الكبرى ويجدوا طريقا لتحريرها وعودة شعبها أليها الذي ضاع بين الدروب .
    وكأنه كان يحاكي الشباب ليثير عندهم جذوة الحب الصادق الذي يتقد بين الضلوع ويسكن القلوب .
    كان وميض يتجول ليلا في شوارع الرباط وهو في غربته يسير على غير ذي هدى لا يعرف إلى أين يمضي في دوامة همومه المفعمة بالألم والحسرة والدموع ، سار في الزنقات من زنقة الى رنقة ، يجوب الطرقات وعيناه لامعتان لان الدموع تحاول ان تفر من مأقيها لتنطلق الى الفضاء الرحب الواسع خارج عينيه وكأن هذه الدموع ستغسل روحه وتطهرها من الادران .
    سار في الشوارع يتذكر بغداد وأيامها ، نهارها وليلها، دجلتها وكورنيشها ، نجيب باشا واهلها هذه المحلة التي احبها كثيرا كيف لا وهي مكان ولادته ومرتع طفولته وشبابه ومكان ولادة ابيه ايضا .
    وهو بجولته هذه في غربته كان يجتر آلامه ربما تهدأ نفسه ، كان يمشي بشوارع الرباط وهو يتذكر بغداد وشوارعها ومقاهيها ومجالس مضايفها العشائرية ، وفجأة اشتعلت همومه واتقدت نيرانها ، حين تذكر حين كان يجلس بمضيف العشيرة مع كبار القوم مع أعمامه وأبناء عمومته والذين هم اكبر منه سناً قد يكون الفرق بينهما بالضعف من السنين ، رجال خبرتهم الحياة وارتسمت التجاعيد على وجوههم وارتسمت لحاهم بالبياض ونادرا ما تجد فيها سوادا ، تذكر حين كان يجلس في مقاهي بغداد مع رجالا اكبر منه سنا بمنزلة أبيه وعمه .
    تذكر تلك المجالس وما كان يدور فيها من نقاشات وسجالات في شتى الميادين ومنها السياسية ، كان وميض شابا يافعا في الرابعة والعشرين من العمر ويمتلك من اندفاع الشباب وطاقاته ما يفجر حدود الكلام ويمضي به قدما حيث يشاء .
    قد يحسب البعض أن اندفاع وميض غير محسوب فهو اندفاع بلا وعي أو بنزوة والعكس صحيح كان وميض كما أشرت سابقا قد تربى في كنف عائلة وطنية قومية ربته على الأخلاق الفاضلة وكان يعرف ما يقول بوعي وإدراك لا بنزوة الشباب كما يضن البعض ، في هذه المجالس كان الحديث يأخذ أبعادا كثيرة وكان وميض يحاول دائما سحب الحديث بالتدريج إلى آلام الأمة العربية ومشاكلها ثم يقودهم إلى فلسطين واحتلالها والاستعمار وما خلف لنا من مشاكل .
    فلسطين كانت بالنسبة له شغله الشاغل ، فلسطين هي التي سببت له التجاعيد وأعطته عمرا اكبر من عمره ، كان يعيش معها يوميا ويعيب تخاذل العرب حكاما وملوك وزعماء .
    فلسطين التي احتلت من فبل الصهاينة واغتصبت أرضها واستباحت حرماتها وشردت شعبها ، هذا الألم والهم العربي كان رفيق وميض في صباه وشبابه وكهولته في بلده العراق وفي غربته خارج الوطن .
    وحين يشتد الحوار بين مؤيد لما يطرحه وميض وبين رافضا لما يطرحه وذلك بسبب مؤثرات المعسكرات العالمية رأسمالية واشتراكية ودينية وكلا حسب توجهه كان وميض يطلق جملته المشهورة ( هذا ما ورثناه منكم ) فيسود الصمت قليلا
    ـ احد الجالسين : ماذا ورثت منا يا وميض
    ـ وميض : آلام وقهر وذل
    ـ احد الجالسين : عجيب أمرك
    ـ وميض : نعم ورثنا منكم احتلال فلسطين وألقيتم بها على عاتقنا كي نحررها .
    بهت الجميع وساد صمت طويل هذه المرة ، ويستمر وميض بالحديث لم تقفوا وقفة رجل واحد من اجلها ولم تسعوا لتحريرها من خلال الضغط على حكوماتنا العربية وبمختلف الوسائل سلمية وغير سلمية ، حملتمونا ارث النكبة حين احتلت فلسطين وارث النكسة حين خسرتم حرب حزيران عام 1967 وأضفتم إلى همومنا هموم آخر فكان الألم رفيقنا والدموع شرابنا .
    امة تمتلك كل مقومات الانتصار ( شعب مقاتل ، ارض واسعة ، اقتصاد مهم ، بترول ، والاهم من ذلك كله الإسلام ) كلها عوامل تدعم الانتصار العربي إذا ما أحسنا استخدام كل قوانا بشكل منطقي صحيح .
    كل ذلك لم يشفع لكم ولم تسعوا بجد لتحريرها فكان نصيبنا منكم هذا الإرث الثقيل المدعم بالدم والتهجير ، أليس هذا ما ورثناه منكم ؟ .
    ـ 13 ـ
    السباحة
    في غربتهِ كان وميض يتذكر كل لحظة من لحظات أيام العز التي كان يعيشها في بلده العراق ويأخذه شريط الذكريات إلى عالم أحبه كثيرا وهو السباحة كيف لا وهو يسكن الاعظمية _ نجيب باشا القريبة من النهر الخالد دجلة الخير بكورنيشها الجميل ومياهها العذبة التي تظمها دقتي النهر .
    لكن وميض لم يتعلم السباحة في هذا النهر وإنما في مكان أخر هو احد فروع دجلة الخير ؟ .
    جلس وميض في شقته وفي غرفة الاستقبال وضع دفتره إمامه ونظارته التي لا تفارقه حين الكتابة ثم اخرج صديق عمره القلم من جيبهِ ووضعه على الطاولة أمامه ، ومع استمرار مرور شريط الذكريات في ذاكرته توقف في محطة صباه كثيرا حيث كان يغادر المدينة باتجاه الريف العراقي الجميل في منطقة الراشدية ببساتينها الرائعة واجوائها النقية نقاوة قلوب ساكنيها ، وشوارعها الترابية وسواقي الماء المتعرجة والممتدة بين بيوتها الطينية لتصل الى مزارع الفواكه والخضار ، هذه السواقي تأخذ مياهها من نهر دجلة القريب منها ومن سكن اخواله في مركز الناحية .
    كان وميض يستغل فترة العطلة الصيفية ليعيش عند أخواله لأكثر من شهرين متتاليين متنقلا بين ممارسة الرعي للأغنام والأبقار ثم بين مزارع الطماطم والباذنجان أو بين حقول الحنطة بعد حصادها حيث تشكل تلالا ذهبية تعكس أشعة الشمس وكان حين يعود متعبا برفقة أبناء أخواله يذهبون مباشرة إلى الساقية القريبة ليمارسوا السباحة فيها ، هنا في هذه الساقية تعلم وميض بعض دروس السباحة وحاول أن يعوم في الماءِ فرحاً ، ويتكرر المشهد يوميا حتى أتقن السباحة ثم تحول من السباحة بالساقية إلى مكان أكثر عمقا حيث السباحة بالجدول القريب أيضا مع مجموعة من الأقرباء والأصدقاء في جو من الألفة ليس له مثيل .
    وحين يعود إلى الاعظمية ومحلته نجيب باشا كان يتواجد على كورنيشها ثم يهبط الى نهر دجلة ليزاول السباحة فيه بأروع ما يكون .
    وهو يتذكر تلك المشاهد اعتصر قلبه وكأنه وضع في قفص مضغوط ثم عبس وجهه واحمرت عيناه ثم أعقبها نزف دموع غزيرة لم يشعر بها وميض الا وهي تبلل دفتره بعد ان بللت لحيته فأستيقظ من حلم جميل ليعيش مرة اخرى مرارة الغربة وآلامها ووجعها ، وكأن دموع العراقي اصبحت هي الاخرى رخيصة بعد ان رخص دمه المهدور في شوارع العاصمة ومدن العراق الاخرى
    ـ 14 ـ
    الزراعة
    حين كان يتردد إلى ناحية الراشدية حيث اخواله والى البصام القريبة من الكرمة حيث اعمامه كان صبيا .
    وجمال الطبيعة وسحرها والماء الجاري في سواقيها أو عبر آبار متفرقة أثرا به كثير وسباحته في انهاره وممارسة العمل الزراعي مع اقربائه قد غرست فيه حب الارض وتعلم فنون الزراعة مبكرا وهو ابن المدينة المترف .
    كان يخرج منذ ساعات الفجر الأولى بعد أن يتناول فطوره العربي ( الخاثر ، والحليب ، والزبد ، والخبز الحار ) وكله طبيعي من أبقارهم وأغنامهم ، كان يخرج إلى الأرض الطيبة ليغرس فيها البذور لتغدوا البذور بعد حين شجيرات تجلب الرزق الوفير لأقربائه ، خرج معهم ذات يوم إلى دجلة الخير حيث أرضهم القريبة من جرف النهر وهي طينية ما أن تضع قدمك فيها حتى تغرز في الطين اللين اللزج ، وجهه خاله ، امسك بيدك هذه العصا وسير باتجاه مستقيم عكس تيار النهر ومع كل خطوة اغرز العصا بالطين بمسافة غير عميقة ، نفذ الآمر سريعا وهو يقوم بعمله كان خلفه مباشرة ابن خاله يضع بذور اللوبيا في هذه العيون الصغيرة موضع العصا
    ـ رشيد : ( مازحا ) يلا اشتغل زين
    ـ وميض : الطين يؤخرني يا صاحبي
    وحين يستدير وميض خلفه يرى حال رشيد ليس أفضل منه فالحال واحد والطين واحد .
    حب الأرض ، حب السباحة ، حب العراق وترابه والوطن العربي وترابه يتعمق داخله كلما كبر وتقدم به العمر .
    كان وميض جالساً في حديقة شقته الأرضية في غربته وهو يتذكر تلك الأيام الجميلة الرائعة ، نعم في تلك الأيام عشقت الزراعة وعشقت الحدائق وتعلمت كيف ازرع واعتني بحديقتي جذور متواصلة وعشق لا ينتهي لحب الأرض والوطن فهل الغربة أبعدته عن الزراعة ؟.
    في شقته الأرضية حديقة متوسطة المساحة وفيها بعض أنواع النباتات من متسلق إلى شجيرات كلها خضراء ووميض لا يحب اللون الأخضر منعزلا عن باقي أللألوان فلا بد له أن يكسر خضار الحديقة بألوان زاهية ، جلب لحديقته نباتات عصفور الجنة بوردها البرتقالي الزاهي ثم جلب لها نباتات ضل ذات ورق احمر ثم زرع فيها أيضا شجيرات ورد صغير ماروني اللون ولم يكتفي بل جلب لها بعض أنواع البصليات ذات الورد ألأبيض وزرع أيضا شجرة فلفل زينة باللون الأحمر القاني كل تلك الشجيرات تنمو رويدا رويدا امام ناظريه ليصنع منها لوحة فنية جميلة بالوان وعطور مختلفة ، وهو جالس في حديقته هذه تذكر حديقته في بغداد وما تحتويه من ازهار جميلة وشجيرات ذات الوان مختلفة واحجام مختلفة ايضا ، تذكر كيف يسقيها صباح كل يوم وكيف يشذب اغصانها ليمنحها جمالا لا يوازيه جمال الا جمال وطنه العراق ، فهل بقى العراق جميلا بعد اعوام 2003 ؟ .
    سؤال أثار وميض بل أفزعه وأدمى قلبه ونزفت عيناه دموعا ساخنة وهو يقول لن يبقى العراق عراقاً ما دام فيه الامريكان ثم اجهش بالبكاء بآلم لا يعرف حدوده الا من عاش الالم مما دعا زوجته لتأتي اليه محاولة منها ان تخفف عنه البكاء والالم وتهدأ من روعه ، ربتت على كتفه ثم ضمته بين ذراعيها واذا هي الاخرى تبكي على حلم جميل ضاع اسمه العراق فأمتزجت دموعهما مع بعض وتوحدت مشاعرهما بشكل لا يوصف وكأنهما دجلة والفرات في عناق ابدي .
    ـ 15 ـ
    الخيول
    لم يكن عشق وميض للخيول العربية الأصيلة وليد فترة شبابه بل قبل ذلك بكثير حين كان طفلاً يسكن محلة نجيب باشا في الاعظمية .
    كانت كتيبة خيالة البلاط الملكي في منطقة الكسرة مقابل البلاط الملكي القريب من نهر دجلة كانت هذه الكتيبة تمر كل يوم أمام ناظريه وهو طفل يقف على قارعة الطريق حيث تنطلق هذه الخيول من حظائرها في الكسرة يمتطيها خيالة من الجيش العراقي ، كانت الخيول تخرج بصفوف ثلاثة وبرتل طويل يتقدمها ضابط في الامام . الخيول تسير برشاقة وجمال وبحركات موحدة وإيقاع متزن ، شعر الرقبة مسدول إلى الجانب ناعم جميل والرقبة تتحرك بلطف وأقدام الخيل كأنها تعزف موسيقى ، شعر الذيل ناعم طويل جميل يتحرك بهدوء ، منظر الخيول جميل جدا وتقاسيمها رائعة متناسقة رشيقة ، الخيالة الذين يمتطون الخيول أو ما نسميهم بالفرسان يرتدون الملابس العسكرية والحذاء الجلدي الطويل إلى أسفل الركبة داخله يكون أسفل البنطلون ويضع الخيالة على رؤوسهم قبعات عسكرية جميلة يمتد خلفها قماش إلى أسفل الكتف وفي أعلى القبعة قطعة معدنية مدببة بلون الاستيل كأنها رأس رمح .
    تنطلق الخيول بسيرها من شوارع الكسرة ثم تعبر شارع المغرب وتستمر بسيرها باتجاه بستان أبو فيس قرب ساحة عنترة . هذا المنظر لا يفارق ذاكرة وميض أبدا واستمرت هذه الخيول بسيرها اليومي هذا حتى بعد أعوام من الجمهورية .
    كان وميض حين يذهب إلى أخواله في ناحية الراشدية منذ طفولته ويقضي اكثر من شهرين هناك من العطلة الصيفية . كان أخواله يمتلكون اثنين من الخيول احدهما ابيض والأخر احمر ويكادان الوحيدين في كل القرية وكانوا يستخدمونهما لإغراض الزراعة وخاصة في موسم الحصاد للحنطة فيكدسوا السنابل في الأرض ثم تمر عليها الخيول لتدوسها بحوافرها بشكل دائري كي تنفصل حبات القمح من السنبلة .
    كان الجيران يستعيرون هذه الخيول لنفس الغرض حيث كانت روح التعاون موجودة ، وحين كان يذهب إلى أعمامه في البصام كان يجد عندهم حصان احمر واحد يستخدموه في الزراعة وفي التنقل من مكان الى اخر وكان عمه خلف علي من المولعين به وقد اخذ صورا مع حصانه .
    ولأول مرة يلامس وميض هذه الخيول بيده حيث يدلك رقبة الحصان بلطف والحصان يتحرك بهدوء . وما أن كبر وميض بدأ يقرأ كل ما يتعلق بالخيول العربية الأصيلة ( أوصافها ، جمالها ، أصولها ، أسمائها ) ولأول مرة يمتطي وميض فيها صهوة حصان عربي كان عام 1984 منطلقا في ارض الله الواسعة بخضرتها وأحيانا بترابها وكان حبه للخيول لا يضاهيه شيء أخر إلا ارض العراق تذكر في غربته هذه الصور الرائعة للخيول الملكية وهي تسير في شوارع بغداد وبكى بحرقة لان هذه الأيام تسير في شوارعها عجلات الاحتلال البغيض .


    ـ 16 ـ
    المهرجانات والمسرح
    شهدت الفترة المحصورة بين عامي 1973 ـ 1979 شهدت هذه السنين نشاطا واضحا وصراعا مع النفس ليؤكد وميض قدرته على الكتابة بلا توقف يتأثر بالظروف الطارئة للبلد ويتأثر بواقعه الاجتماعي الذي يقيد حدود الانفتاح أحيانا فيكون الإبداع حبيس سجل بين ضفتيه ما جاد به نزف عقله وضميره وقلمه . لا يخرجه ألا حين تكون الظروف مؤاتية فتراه يصدح بصوته بما كتب في جلسات خاصة مع الأصدقاء تتضمن ذلك غزلياته وسياسياته ، وحين عرف والده في أوائل السبعينات توجه ولده الأدبي أعطاه الضوء الأخضر حين جلب له كتاب النظرات للكاتب المصري محمد لطفي المنفلوطي والذي طلب من ولده من قبل مدرسه أعجبته لعبة الكتابة ولكي يبدع لا بد أن يقرأ ، قرأ للسياب ، نازك الملائكة ، محمود درويش ، ابو القاسم الشابي ، نزار قباني وغيرهم وتأثر بهم وكان السياب سيفا مسلطا عليه فحاول محاكاته عبر ما يكتب. وقرأ الروايات ولروائيين عرب وأجانب ، كان حين يقرأ نصا وترد كلمة لا يفقه معناها لا يتركها بل يلجأ إلى كتاب المنجد يبحث عن معناها ، كل ذلك أعطاه القدرة على الكتابة دون تردد ولكي يكون له حضورا بين الشباب اقرأنه لا يكفيه ما يسمعه أصدقائه المقربين قرر الاشتراك بالمهرجانات الخطابية والشعرية التي تقام في القاعات الكبيرة لطلبة الرصافة ومن هذه القاعات قاعة النعمان في الاعظمية التابعة لوزارة الاوقاف وقاعة كلية العلوم في ساحة عنتر وقاعة اعدادية الاعظمية للبنين وغيرها.
    كان وميض يحمل أوراقه وما سطر فيها من سياسياته فيرتقي المسرح واثقا من نفسه غير قلقا من أنظار الجمهور أليه أو أنظار المسئولين في مقدمة الصفوف وبدأ صوته الجهوري يصدح وهو ينغم الكلمات بما يليق بها وبأسترسال متميز يعقبه اندماج الجمهور مع ما يسمع فتتعالى الاصوات اعيد اعيد مقرونة بالتصفيق .
    ويعيد وميض بألق ويستمر حتى النهاية وما إن ينزل من مسرح القاعة إلى مكانه كل الأنظار تتجه أليه ، والأصوات المشجعة تدخل مسامعه ، وتبدأ رحلة الأسئلة من المعجبين رجالا ونساء شبابا وشابات ، من أين أنت ؟ ومن تتبع ؟ ومن أي إعدادية أنت ؟ . فيأتيهم الجواب من بغداد ارض الأمجاد واتبع عمالقة المبدعين وفي مقدمتهم السياب وانا من طلبة الرصافة كما تعلمون ومن احدى ثانوياتها .
    هذا المشهد الذي واجه وميض جعله يحسب للجمهور ألف حساب وأخذ على عاتقه أن يكتب بحرص وإبداع يليق بالجمهور ويجسد من خلاله الوطنية والقومية التي تربى عليها ، هذه السنين السبع التي مرت لم يغفل وميض فيها قضية فلسطين بل كانت جل كتاباته لها فهو لم ينسى الهم العربي والألم العربي .
    كان المسرح بالنسبة لوميض هو متنفس يجد ذاته فيه من خلال العروض الطلابية حين يشاهدها عروض سياسية وغزلية وفكاهية وكان يتابع ذلك بشغف كبير يريح نفسه من خلاله ويشحن حماسه من خلال عروضه .
    وذات يوم قرر وميض أن يجرب الكتابة للمسرح فجلس ليلا في غرفته وهو يكتب بلا توقف حتى بعد منتصف الليل أنهى كتابة المسرحية الأولى له ودفعها للطلبة للتمرين عليها قبل يومين من موعد عرض الحفلة ، اسند لوميض أخراجها ودور البطولة فيها وعمل مع الجميع عملا متواصلا منظما حتى أتموا إتقان المسرحية وهم جاهزون لعرضها غدا في الاحتفال على قاعة المدرسة المأمونية في بغداد .
    كان اسم المسرحية الصرخة وتتحدث عن الفدائي العربي نصر وهي بالاجمال تتحدث عن الصراع العربي الصهيوني ، ويبدأ العرض وتتصاعد وتيرته عبر صور متقنة من الابداع في جمل تهز المشاعر وما أن وصلت ذروتها في المشهد الأخير حيث استشهاد الفدائي العربي نصر أذا بالقاعة تضج بالتصفيق والهتاف المستمر فلم يعد أحدا جالس في مكانه الكل وقوف يصفق ويشجع ويحيي الممثلين من الطلبة .
    وقد أخذت صور فوتغرافية كثيرة للمسرحية وممثليها وما زال وميض يحتفظ بها في البوم صورهِ الخاص الذي تركه في بغداد .
    تذكر وميض تلك الأيام وهو يعيش غربته في الرباط وتألم كثيرا حين تذكر كيف اعدم مسرحياته الثلاثة التي كتبها بعود ثقاب في لحظة من الزمن لينهي بحرقها علاقته بالكتابة للمسرح في حين استمر يتابع العروض المسرحية باستمرار في المسرح الوطني ومسرح الرشيد بلا توقف .
    تذكر ذلك مصحوباً بألم مضاعف الم الغربة وألم الابتعاد عن المسرح .
    ـ 17 ـ
    المقام العراقي
    من يعتقد أن الغربة تنسي المغترب الأصالة والحنين والشوق للوطن فهو على وهم .
    فالغربة تلهب المشاعر وتوقد الإحساس بكل شيء جميل وأصيل في حياة المرء ، ويزداد ولعه وإعجابه بل وإبداعه في البحث عن كل اصيل وبحنين .
    النخلة العراقية تبقى في الذاكرة دائما ولا يمكن لآلام الغربة أن تمحيها وكذلك المقام العراقي لا ينسى أبدا .
    جلس وميض كعادته في مقهى ( بيرتس ) القريب من سكنه حاملا دفتره وقلمه ونظارته التي لا يمكنه الرؤيا بوضوح حين الكتابة ابداً بدونها ، جلس في مقعده المحبب أليه والذي تعود الجلوس به دائما ، يكتب ويكتب على انغام الموسيقى الهادئة وهو يخط الحرف بعد الحرف والكلمة بعد الكلمة وتتسطر عنده الجمل بأنسياب سهل عجيب ، كان فنجان قهوته امامه على الطاولة ، فجأة ترك وميض قلمه وتوقف عن الكتابة فهل الهمته الغربة في يومهِ هذا شيئاً ؟ .
    ترك قلمه وأوراق دفتره ورفع نظارته من عينيه وبدأ يعيش عالما آخر خارج أطار المقهى وربما خارج البلد الذي هو فيه ألان ولكن هل يغادر غربته ويشعر بطعم الوطن من جديد ؟ .
    أين ذهب وميض بتفكيره وهل سرحانه هذا قريب ؟ .
    من ينظر إليه يشعر مباشرة انه يعيش حالة غيبوبة كاملة لأنه لا يعي ما يدور حوله ألان .
    وهو يسمع الموسيقى الهادئة تذكر وميض بغداد وموسيقاها ومطربيها ، تذكر أجواء الغناء البغدادي الأصيل وكيف يقرأ المقام البغدادي وكأنك حين تدخل هذه الأجواء تدخل صومعة ناسك ، تذكر الطرب العراقي الأصيل بعنفوانه وبعذوبة أنغامه ورقة أصواته وعذوبتها وحضرت ذاكرته أسماء ناظم الغزالي ومحمد القبانجي قراء المقام العراقي الاصيل وكان من المولعين بقرائتهما واصواتهم تأخذ مداها في مسامعه .
    ناظم الغزالي بصوته الشجي وعذوبة مقاماته كان سفير العراق في هذا الميدان وكان من المتابعين لغنائه وفنه بشغف كبير رغم انه لم يرى ناظما إلا عبر محطات التلفاز .
    محمد القبانجي هذا العملاق المبدع المجدد بفنه ينتقل من مقام الى اخر بأتقان وكان صوته وهو يصدح فخراً للغناء العراقي وللمقام البغدادي ، هذا العملاق الذي ملئ ساحة الغناء العراقي بالابداع وبأجمل القراءات واعذب المقامات كان نجما ساطعا في سماء العراق الغنائية ورمزاً يفتخر به العراقيون جميعا .
    وشاءت الصدف يوما أن يلتقي وميض مع هذا العملاق في شارع السموؤل في بغداد حيث محل بيع الاقمشة الذي يمتلكه مبدعنا القبانجي ، مرة واحدة التقى به وهو كبير السن متعب بفعل السنين ولا زال يتذكر ذلك اليوم .
    كل هذه الذكريات عن بغداد ومقاماتها وقرائها جعلت عيني وميض تغرورقان بالدموع ويشتد لمعانهما وفجأة انتبه وميض ونظر حوله وهو يرى الجالسين ينظرون إليه باستغراب حبس دموعه بقوة وعزيمة العراقي ولم يدع لها مجالا أو مجرى للخروج كي لا يبدو ضعيفا أمام الجالسين .
    وهو يتذكر المقام العراقي وقراءه لم ينسى يوسف عمر وحسين الاعظمي ومحمد عاشق البغدادي واخرين ، لكن ولعه وعشقه كان للعلمين البارعين في العراق بقراءة المقام وبسحر صوتيهما المسجل بذاكرته والمختزن مع ذكرياته الغزالي والقبانجي وكأن اصواتهما لا زالت تطرقان مسامعه بأعذب ما يكون الغناء .

    ـ 18 ـ
    دجلة والزورق
    حين يسكن القهر قلوب الناس ويصبح الألم سمة عصرهم تفيض عندهم المشاعر والأحاسيس .
    وتتفجر براكين الدموع في العيون لتحرق كل ما تمر به ، وميض احد شخصيات هذا العراق ، بسيط بساطة اهله ، رقيق برقة نسائم ربيعه ، تحيط به الآلام من كل جانب وتحدد مساره الهموم أين يمضي ، وميض عراقي حد النخاع وعربي التوجه والتوحد حد الإشباع لا يساوم على انتمائه أبدا .
    في غربته التي يعيش كان نبضه العربي هو سمة شخصيته ، هاجسه الوحيد تحرير ارض العرب كما هاجسه الأوحد هو تخليد قضايا العرب بكتاباته ، الغربة شيء لا يعرف معناها إلا من يعيش غربتها خارجا أو داخلا ، هذه الغربة ألزمت وميض نمطا من الحياة نادرا ما ترتسم الابتسامة على وجهه وكثيرا ما تجد عيناه مغرورقتان بفعل الدموع ، الغربة جرح نازف بلا دم نزفها آلام وحزن ودموع واشتياق للوطن وللنخلة والأحبة ودجلة ومرسى الزوارق .
    في غربته بدأ شريط حياته يمر أمامه سريعا يتذكر أيامه الجميلة في بغداد العروبة يتذكر شوارعها ونهرها الخالد دجلة الخير وكورنيش الاعظمية ومرسى الزوارق فيه ويتذكر اصدقائه وجيرانه ومجالس السمر ويتذكر ... ويتذكر ؟ .
    وهو في الثامنة والعشرين من العمر أي عام 1984 حيث معارك الشرف تدور رحاها وهو عسكري احتياط يشارك المقاتلون دفاعا عن الوطن ، تذكر حين يأتي بأجازة شهريه من الجبهة في الثمانينيات وتذكر تلك الفترة من حياته الممتدة بين عامي 1977 ـ 1984 فقد تعود أن ينتقل من زهرة إلى زهرة كأنه نحلة تشتاق إلى رحيق الأزهار أو كأنه يعوض ما فاته من حب النساء أيام الشباب فمن حبه الأول الذي انتهى إلى عام 1984 حيث بدا حبه الجديد وبين الأول والثاني علاقات نسائية كثيرة لكنه لم ينسى الهم العربي أينما كان وتواجد فالمعارك الطاحنة التي خاضها وطنية الأصل قومية البعد لم تنسيه فلسطين والعرب .
    كان يعتقد أن حبه لهذه المرأة سيكون أخر المطاف حب ينهي به. سنين البحث عن الاستقرار فهل يجد حبا حقيقيا يستقر معه أم سيكون حبه هذا كسابقاته يهربنّ منه لأسباب مختلفة تتقاطع مع أخلاقياته تذكر تلك الشابة الممتلئة الجسد الحنطية اللون الرقيقة المشاعر صاحبة الفم الصغير والعينين العسليتين وصاحبة الصوت الهادئ ، تذكر الصدفة الجميلة التي التقى بها وتعرف عليها وعاش قصة حب شغلته كثيرا وكتب لها الكثير من الخواطر .
    وهو يسير في شوارع الرباط مغتربا عام 2011 تذكر كل تلك المشاهد والأحداث التي جرت بحياته والمشهد الذي لا ينساه أبدا هو حين كان يجلس مع حبيبته في الكورنيش بجوار جرف النهر والزوارق تسير أمام ناظريه ذهابا وإيابا وأمواج النهر ترتطم بالجرف بهدوء جميل رائع واصوات العصافير تزقزق وحفيف الشجر يعزف اجمل الاصوات ولم ينسى ابدا عناق حبيبته تلك او ينسى الحوارات التي كانت بينهم حوارات الغزل والحب .
    ـ وميض : هل نركب احد الزوارق
    ـ حبيبته : بكل سرور
    ـ وميض : الا تخشين النهر
    ـ حبيبته : معك لا اخشى شيئا يا حبيبي
    ينادي وميض على صاحب الزورق فيأتيه رويدا رويدا حتى يرسي بالقرب منهما ، مسك بيد حبيبته واركبها الزورق ثم صعد هو فيه وابلغ صاحب الزورق اذهب بنا بجولة في النهر .
    انطلق بهم الزورق عكس تيار الماء في النهر وهما في منتصف النهر يسير بهما بأتجاه جسر الكاظمية قال وميض مازحا هل تجيدين السباحة ، اجابته كلا ، ويستمر الزورق بالسير والماء يداعب اخشابه يمينا ويساراً وصوته يعلوا احيانا صوت محرك الزورق والرجل صاحب الزورق ينظر بعينيه الى الافق وهو يتولى القيادة اما وميض وحبيبته فكانا يداعبان ماء النهر بأيديهما ويشعران ببرودته ، ويتمتعان بمناظر الطبيعة الخلابة ، بعدها طلب وميض العودة الى نقطة البداية ثم ترجلا يسيران بين حدائق الكورنيش وازهاره الجميلة .
    تذكر وميض كل ذلك وكيف كتب لها خاطرته التي عنوانها رحلة الزورق والتي يقول في مطلعها
    أ تذكرين رحلة الزورق
    بدجلة والماء حولنا ترقرق
    تذكر وميض كل ذلك وهو يسير في شوارع الرباط ومن حيث لا يشعر سقطت دمعة من عينيه في حالة من الاسى والحزن وشدة الشوق لبغداد وايامها الجميلة والتي اصبحت بعيدة عنه وقد لا يراها مجددا .

    ـ 19 ـ
    النخلة العراقية
    إذا كانت النخلة العراقية هي رمزاً للعراق منذ القدم وان عشقها عند العراقي لا يضاهيه عشق آخر ، هذه الشجرة الباسقة الطول المنتصبة بكبرياء في ارض العراق الزاهية بجمالها من الجذع الى كتلة السعف الأخضر وبعذوقها الذهبية الصفراء التي ستتحول يوما ما الى تمر لذيذ المأكل .
    هذه النخلة التي تغنى بها الشعراء فنظموا لها شعرا ، وغردت حناجر المطربين فغنوا لها ، وتغزل بها الكتاب فسطروا لها اجمل الكلام ، فهل جميعهم يكتبون للنخلة كنخلة ام لانها رمزا للعراق وشعبه ، يقينا ان الجميع كتبوا لها كنخلة وكرمز للعراق .
    النخل العراقي معروف بكرمه لدى العراقيين فلا يوجد جزء منها بلا فائدة لصاحبها ، وإكرام النخلة واجب على الجميع كما قال نبي الرحمة محمد ( ص ) أكرموا النخلة فأنها عمتكم هل بعد هذا الوصف من وصف ؟ .
    أعود لأشير إلى أن النخلة أصبحت لدى المغتربين العراقيين هاجس يومي واقصد المغتربين في الخارج والداخل ، ويسعدني أن أشير هنا إلى ما كتبه الكاتب المبدع المرحوم همام الالوسي عن النخلة في كتابه الموسوم ( من دفتر الغربة : خواطر مضطربة حزينة )
    وفي الصقحة 114 واليكم نصه ( ـ ردت عليه ، وهي تنظر الى عينيه مباشرة بطريقة ( ماكرة ) ، شعر معها ببعض الحرج : ما دمت عاشقا ، فمن هي معشوقتك ؟؟
    ×× جاءت اجابته على الفور ودون تردد ، فقد كان يتمنى ان تسأله هذا السؤال ، فاندفع قائلا :
    معشوقتي نخلة عراقية ... برحية باسقة معطاء... نخلة خلقها الله ليس كباقي الكثير من نخيل بلادي ... فهي مثمرة طوال عمرها ... غرستها في طينة ارضي ، وأحببتها وهي ( فسيلة ) قبل ان تنمو بشموخ وجمال أخاذين .. لم أكن أنا الذي أرعاها ، فالله هو الذي كان يرعاها .. وكان حبي لها يكبر كلما كبرت .
    كانت هي نخلتي وكنت أنا أرضها ... وكان حلم الكثيرين من ( أهل البستان ) أن يبقى كلاهما ( النخلة والارض ) متشبث بالاخر ، حتى يأتي يوم حملها لثمرها ... ) .
    بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب الراقي يصف كاتبنا هواجسه ومشاعره وأحاسيسه وما يعانيه في غربته من خلال النخلة وأية نخلة ( البرحية ) المعروفة بجودتها وكثرة انتاجها وقلة فسائلها وبذلك يكون تكاثرها قليلا وسعر فسيلتها مرتفع الثمن .
    برقة حروفه وحلاوة كلماته وعذابات غربته كتب للبرحية وهو يحاكيها كنخلة ورمز ، نعم فجذورها الضاربات في الأرض بتشبث رمزا للاصالة والعراقة وشموخها رمزا لشموخ العراق والعراقي اينما حل واستقر .
    لقد تحدث الكاتب همام الالوسي عن النخلة في اكثر من موضع في كتابه فهو والنخلة لا يفترقان .
    كان وميض في غربته التي يعيشها يبحث عن التمر فهل وجد كتمر العراق ؟ ابدا لن يجد .
    إذن هو يفتقد الأصالة ويفتقد الرمز فأصبح غريبا وهو في ارض العرب وغريبا بكل معنى الكلمة .
    فهل تروي دموع الغربة هذه هل تروي نخلة عراقية هي أصالة ورمز عند العراقي ، أن كل عراقي يعيش الغربة اليوم يحمل بداخله نخلة عراقية بل أصبح هو النخلة بكل معانيها ( أصالة ، شموخ ، كبرياء ، رمز ) والسؤال الذي يطرح نفسه هل سيتجدد اللقاء بين النخلتين ( العراقي ، النخلة ) ؟ نعم فذلك ليس ببعيد . لان قدر العراقي أن يبدع أينما وجد ويزداد الإبداع حين يكون مغتربا حيث يقوده الحنين إلى الوطن والعشق الأبدي لرمز العراق النخلة فيأخذ اللقاء مجالا واسعا رحبا في ذاكرة المغترب وعقله .
    ـ 20 ـ
    رسالة إلى بيتي
    لا ادري كيف ابدأ ؟ . قالها وميض ودموعه منهمرات وهو لا يعي حقيقة ما سيكتب بل اطلق العنان لقلمه ( صديقه الوفي ) ولانامله كي تحرك هذا القلم ليخط ما يشاء وقت ما يشاء عن وصف ما به من آلم وحسرة وعذاب ، دموع ساخنة تحرق له وجنتيه الذابلتين ، ويأخذ الدمع طريقه في اخاديد وجهه ، عذاب ودموع آلم وحسرة مسميات اصبحت من العلامات الفارقة لمن يعيش الغربة . وهو جالس في حديقة شقته في الطابق الأرضي وتحت مضلتها البيضاء وأمامه دفتره وقلمه ورفيقه في جلسته هذه الدموع الساخنة بحرقة وآلم واضح ، من يا ترى سبب له كل هذا الألم ؟ وهل هو بحاجة إلى آلم إضافي ؟ .
    تعالوا معي نقرأها ونمعن النظر إلى كلماتها ومعانيها وصلت رسالة عبر البريد الالكتروني ( الايميل ) الى وميض وما ان فتح صندوق الرسائل عرف مرسل الرسالة وهو الاستاذ عبد الستار محمد صالح اللهيبي احد اقربائه يقول فيها هذه رسالة وصلتني عبر الايميل ولن اعرف صاحبها أبدا ولأهمية الرسالة أرجو قراءتها وتعميمها لمن تعرف من الأقرباء والأصدقاء ، استمر وميض يقرأ الرسالة حتى وصل عنوانها توقف قليلا ، وهو يتذكر داره في بغداد ، ترك القلم جانبا واخذ شهيقا طويلا أعقبه زفير ، واغرورقت عيناه بالدموع ، العنوان اثار فيه كل هذه الشجون فماذا ستصنع الرسالة به اذا تم قراءتها .
    مسح وميض عينيه بمنديل ورقي وواصل قراءة الرسالة ، الرسالة منشورة على شبكة ألنت وصاحبة الرسالة هي الدكتورة مي احمد لا مرسل الرسالة يعرفها ولا وميض يعرفها ، قرأ وميض الرسالة بتأني كلمة كلمة فأثارة عنده الشجون والالم والحسرة والدموع حين قرأ فيها ( الدار ، البرحية ) واستمر يقرأ ولكي لا احرمكم متعة القرأة بآلم اليكم نصها .

    رسالة إلى بيتي في بغداد

    د.مـي أحمد

    بيتي الحبيب
    اليوم أتممت عشرة أعوام منذ غادرتك , ومن يومها لم أعرف الاستقرار الى الآن .
    بنيتك قبل ستة وعشرين عاما حسب ذوقي ورغبتي من حر مالي الذي كسبته من عملي .
    وكنت أظن تابوتي يوم موتي سيخرج منك .
    زرعت في حديقتك الخلفية سدرة وزيتونتين واخترت لهذه الحديقة طراز الحدائق الصحراوية .
    أما حديقتك الامامية فقد كانت قبلة للناظرين توسطتها رمانتي الحبيبة التي كانت تجود برمان وردي أطعم وأشهى من العسل .
    وحين ولدت ابني الوحيد زرعت له في ركن هذه الحديقة فسيلة نخل برحية وقلت له : عندما تكبر علق لأولادك مرجيحة على هذه النخلة وقل لهم إن جدتهم قد زرعت لك هذه النخلة يوم مولدك .
    حين وقعت الحرب تكسرت أجزاء كبيرة منك بفعل القصف اليومي المكثف الذي تعرضت له محلتنا , لكني أصلحت كل ذلك بمجرد وقف العمليات العسكرية . داخلك بيتي الحبيب التقيت أهلي وأحبتي وأصدقائي ولم تزل حكاياتنا عطرة ندية في ذاكرتي .
    وخزنت فيك بغرفة المكتبة في الطابق الأعلى ما يزيد على ألفي كتاب , وفي هذه الغرفة كتبت أطروحتي للدكتوراه , يا الله كم كنت سعيدة وفخورة بنفسي تلك الأيام .
    وخلال عشرة أيام اشتريت جواز سفر وحملت ابني وغادرنا إلى الأردن , في عمان شعرت بألم في معدتي وتقيأت دما .
    كل شيء حدث بسرعة مرعبة , وصار عندي يقين إنني لن أرى العراق مرة أخرى .
    ؟ .
    بيتي الحبيب

    منذ الصباح الباكر أغني لك مع كاظم ( مشتاق ومضنيني الفراق مشتاق) وخنقتني العبرة عدة مرات حين يصل الى القول ( هجرني من هجرتوني دفا بيتي , وانا بليل الشتا موعود ) . وانت تعرف عندما يكون الانسان في هكذا حالات اشتياق فانه يكون مستعدا لإجتراع الأعاجيب .
    قررت أنني يجب أن أراك اليوم وبأي شكل أو صورة , نزلت برنامج ( جوجل ايرث ) على الكومبيوتر . وفتحته ثم ذهبت الى بغداد , وصرت ابحلق في شاشة الكومبيوترحائرة الروح , كأني في طائرة أسابق نفسي للنزول في المطار وأنا لاادري أي من أحبتي سيكون بانتظاري , يا ربي كيف سأجد بيتي وسط هذه الزحمة والاتساع !!!
    عبرت دجلة من الرصافة الى الكرخ وانا الآن في ساحة المتحف , وهذه المحطة العالمية , وهذا مطار المثنى , هنا معهد الفنون الجميلة , وهذا معرض بغداد , بدأت نبضات قلبي تتسارع حين رأيت برج المأمون , درت دورتيين حول البرج ولم اعد أرى شيئا من خلال دمعي , ها انت حبيبي بيتي أمامي , لكنك أبعد من السماء عني .

    حين أقرب صورتك تفقد وضوحها , وحين أبعدها تفقد تفاصيلها , فلم أستطع غير ملاحظة أن نخلة ابني التي كان طولها حوالي متر حين غادرنا , صارت الآن شابة جميلة تصل سعفاتها إلى بلكونة البيت .... أين انت يا البرحية ؟ ابني الآن صار ينسى الكثير من كلماته العربية ويجد من الأسهل عليه التكلم بالانكليزية , ولست أدري مرجيحة أي أحفاد ستحملين اذا لم يكونوا أحفادي ؟!

    ذهبت إلى موقع لحساب المسافات على الأرض , فوجدت بغداد تبعد عني 154 ألف كيلو متر , هل هذا معقول يا ربي !!!!!!

    اتصلت بأهلي في بغداد قلت لهم : سأعود

    فقالوا : احذري أن تفكري بذلك , ابن عمتك اغتالته قوات من الداخلية في بيته عند السابعة صباحا , وقريبك فلان تم اختطافه لطلب فدية خمسين إلف دولار , وابن خالك أسير عند الامريكان , أما قريبنا فلان فقد اعتقلته الداخلية منذ عام ونصف , ومنذ عام كامل انقطعت أخباره تماما .

    بيتي الحبيب
    ماذا أفعل أمام كل هذا ؟ عدت إليك على موقع جوجل , وضعت عليك اشارة تمكنني من الوصول اليك في كل مرة دون بحث .

    وصرت أردد أبيات من واحدة ابن زريق البغدادي :

    أستودع الله في بغداد لي قمرا بالكرخ من فلك الازرار مطلعه
    ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وإني لا أودعه
    تشبث بي يوم الرحيل ضحــى وأدمعي مستهلات وأدمعه
    إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه وجرحي لا يوسعه

    بيتي الحبيب , سأزورك كل يوم على موقع جوجل , وهذا كل ما بقي لي منك أدامك الله لمحبتنا .
    مــي
    وألان أليس من حق وميض أن يبكي بدموع دم وآلم وان يتحسر ؟ . هل أصبح العراقي المغترب في ارض الله الواسعة بلا أمل للعودة إلى داره ووطنه ؟.
    لقد آلمتنا رسالة الدكتورة مي كثيرا وهي تدخل كل يوم على الكوكل لتشاهد دارها التي شيدتها في بغداد تنظر اليه صورة جامدة من الاعلى بعد رحلة مضنية من .البحث عبر الانترنت حيث خارطة العراق ثم بغداد ثم محلتها ثم أزقتها وصولا إلى بيتها الذي بنته طابوقة فوق طابوقة ثم تنظر الى النخلة العراقية التي زرعتها يوم ولادة ابنها وهي من ارقى انواع النخيل نعم البرحية وكأن قدر المغترب ان يتغزل بالبرحية كرمز وغاية ، مشهد مؤلم حقاً ومؤثر في النفس البشرية بقساوة ما بعدها قساوة .
    وحين أتم وميض قراءة الرسالة بصعوبة بالغة بسبب الدموع السابحة في عينيه والتي شقت طريقها بغزارة على وجنتيه الذابلتين ، وبدأت قطرات منها تأخذ طريقها إلى لحيته فتنزل قطرة قطرة على الورقة التي يكتب بها هذه المشاعر والاحاسيس فيمتزج مداد القلم مع مداد العين وقبلهما مع مداد القلب فتخرج كلماته حزينة مأساوية ومؤلمة للحدث الجلل وعظيم المعنى والمغزى ، يترك وميض قلمه جانبا ويمسك بصديقه الثاني فنجان القهوة ليرتشف منه القهوة العربية المعروفة بمرارتها ، لكنها هذه المرة اكثر مرارة مما سبق .

    وميض
    وميض
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    عدد المساهمات : 1492
    نقاط : 7858
    السٌّمعَة : 124
    تاريخ التسجيل : 29/05/2010
    37
    الموقع : قلب المنتدى النابض

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف وميض السبت فبراير 27, 2016 7:40 pm

    ممتع وذو شجون حقا
    هدى
    هدى
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 145
    نقاط : 5202
    السٌّمعَة : 6
    تاريخ التسجيل : 29/06/2010
    الموقع : اوفياء المنتدى

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف هدى الأحد فبراير 28, 2016 8:33 am

    جميل هذا البوح وراقي يداعب النفوس
    العادل
    العادل
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    عدد المساهمات : 1657
    نقاط : 8732
    السٌّمعَة : 131
    تاريخ التسجيل : 29/05/2010
    41

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف العادل الأحد مارس 06, 2016 8:11 am

    بداية كتاب يبدو لي راقي جدا
    الجبوري
    الجبوري
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 111
    نقاط : 5175
    السٌّمعَة : 13
    تاريخ التسجيل : 29/06/2010
    الموقع : اوفياء المنتدى

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف الجبوري الأحد مارس 06, 2016 5:06 pm

    رائع جدا جدا وممتع
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25947
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الإثنين مارس 07, 2016 9:11 am

    شكرا وميض
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25947
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الإثنين مارس 07, 2016 9:12 am

    شكرا هدى
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25947
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الإثنين مارس 07, 2016 9:12 am

    شكرا العادل
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25947
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني  Empty رد: كتاب سويعات من ليل الغربه / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الإثنين مارس 07, 2016 9:13 am

    شكرا الجبوري

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت أبريل 27, 2024 9:08 pm