القلم للثقافة والفنون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
القلم للثقافة والفنون

( قَلمُنا ... ليس ككلِ الأقلامْ ، قَلمُنا ينطقُ ثقافةً وينزفُ صدقاً ويشجع المواهبَ ليخلقَ الإبداعْ )


+19
ابو سيف
سعاد
هدى
سامر اكسو
وميض
احمد
ابتسامة امل
رونز
استبرق
حنان اللهيبية
فرقد اللهيبي
الحسام
الصارم
نور القلوب
سما بغداد
ميس
صباح الجميلي
الحارس
مؤسس المنتدى
23 مشترك

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الأربعاء ديسمبر 08, 2010 6:40 pm

    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0


    عدل سابقا من قبل Admin في الثلاثاء يوليو 24, 2012 4:06 pm عدل 3 مرات
    الحارس
    الحارس
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    عدد المساهمات : 1083
    نقاط : 7671
    السٌّمعَة : 55
    تاريخ التسجيل : 01/08/2010
    الموقع : اوفياء المنتدى

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد على تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف الحارس الإثنين أكتوبر 10, 2011 9:52 am




    واقع حال فرض على العاصمة انذاك لاسباب كثيرة ونزعة القتل بعدالاحداث لا ضير منها لانها متوفعه من هكذا اناس
    صباح الجميلي
    صباح الجميلي
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    عدد المساهمات : 4287
    نقاط : 21329
    السٌّمعَة : 437
    تاريخ التسجيل : 07/04/2011
    87
    الموقع : المربي الفاضل /مدير عام تنفيذي /كبير مبدعي القلم / القلم الذهبي / القلم الماسي / وسام الابداع/ درع الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صباح الجميلي الإثنين أكتوبر 10, 2011 10:48 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    استعراض جميل وواقعي لطبيعة المجتمع العشائري في العراق ... جميل جدا ما كتبت أخي الغالي..
    صباح الجميلي
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى السبت نوفمبر 19, 2011 5:44 pm

    الحارس كتب:


    واقع حال فرض على العاصمة انذاك لاسباب كثيرة ونزعة القتل بعدالاحداث لا ضير منها لانها متوفعه من هكذا اناس

    شكرا لمرورك اخي الكريم
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى السبت نوفمبر 19, 2011 5:45 pm

    صباح الجميلي كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    استعراض جميل وواقعي لطبيعة المجتمع العشائري في العراق ... جميل جدا ما كتبت أخي الغالي..
    صباح الجميلي


    شكر ا دكتور مرورك اسعدني
    ميس
    ميس
    عضو نشيط
    عضو نشيط


    عدد المساهمات : 94
    نقاط : 11174
    السٌّمعَة : 14
    تاريخ التسجيل : 10/09/2010
    الموقع : شهادة تقدير / القلم الفضي / القلم الذهبي

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف ميس الأربعاء ديسمبر 21, 2011 7:15 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0


    جميلة جدا ورائعة
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الخميس ديسمبر 22, 2011 11:50 pm

    ميس كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0


    جميلة جدا ورائعة

    شكرا للمرور اللطيف
    avatar
    سما بغداد
    عضو ذهبي
    عضو ذهبي


    عدد المساهمات : 152
    نقاط : 5228
    السٌّمعَة : 12
    تاريخ التسجيل : 29/06/2010
    الموقع : اوفياء المنتدى

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف سما بغداد الخميس يناير 19, 2012 6:28 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    • سرد جميل مشوق
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الجمعة يناير 20, 2012 6:30 pm

    سما بغداد كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    • سرد جميل مشوق


    شكرا للمرور الرائع
    avatar
    نور القلوب
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 117
    نقاط : 5008
    السٌّمعَة : 7
    تاريخ التسجيل : 29/12/2010
    الموقع : مشرفة ديوان الشاعرة ندى الربيعي ( نور القلوب )

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف نور القلوب الثلاثاء يناير 24, 2012 6:57 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    جميل ما سطرته هنا
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى السبت يناير 28, 2012 5:05 pm

    نور القلوب كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    جميل ما سطرته هنا

    شكرا للمرورالرائع
    avatar
    الصارم
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 109
    نقاط : 4597
    السٌّمعَة : 3
    تاريخ التسجيل : 28/01/2012

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف الصارم الخميس فبراير 02, 2012 4:47 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تمتعت كثيرا حين قرأت
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الخميس فبراير 02, 2012 5:05 pm

    الصارم كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تمتعت كثيرا حين قرأت

    احسنت الرد والمرور
    الحسام
    الحسام
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 105
    نقاط : 5293
    السٌّمعَة : 6
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    41
    الموقع : عضو

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف الحسام السبت فبراير 25, 2012 3:38 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تطور الاحداث اعطاها رونقا
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الأحد فبراير 26, 2012 1:59 pm

    الحسام كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تطور الاحداث اعطاها رونقا

    شكرا لمرورك الرائع
    avatar
    الصارم
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 109
    نقاط : 4597
    السٌّمعَة : 3
    تاريخ التسجيل : 28/01/2012

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف الصارم الأحد فبراير 26, 2012 4:45 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تسارع الاحداث اعطاها بعدا اخر
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الإثنين فبراير 27, 2012 1:09 pm

    الصارم كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تسارع الاحداث اعطاها بعدا اخر

    شكرا للمرور الجميل
    avatar
    فرقد اللهيبي
    عضو نشيط
    عضو نشيط


    عدد المساهمات : 73
    نقاط : 5098
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 07/08/2010

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف فرقد اللهيبي الثلاثاء فبراير 28, 2012 12:13 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تصاعد الاحداث زادها رونقا
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الأربعاء فبراير 29, 2012 12:08 pm

    فرقد اللهيبي كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    تصاعد الاحداث زادها رونقا

    مرورك اعجبني وابهجني
    avatar
    حنان اللهيبية
    عضو نشيط
    عضو نشيط


    عدد المساهمات : 85
    نقاط : 4728
    السٌّمعَة : 12
    تاريخ التسجيل : 05/09/2011

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف حنان اللهيبية الثلاثاء مارس 13, 2012 12:53 pm

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    اخي الفاضل امتعتني كثيرا
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الإثنين مارس 26, 2012 2:47 pm

    حنان اللهيبية كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    اخي الفاضل امتعتني كثيرا

    غايتي امتاعكم
    avatar
    استبرق
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 121
    نقاط : 4992
    السٌّمعَة : 4
    تاريخ التسجيل : 12/01/2011

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف استبرق الثلاثاء مايو 29, 2012 10:36 am

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0
    جميل جدا والله اعجبني
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الأربعاء مايو 30, 2012 10:37 am

    استبرق كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0
    جميل جدا والله اعجبني

    شكرا للرد الجميل
    avatar
    رونز
    عضو فضي
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 113
    نقاط : 5087
    السٌّمعَة : 3
    تاريخ التسجيل : 29/09/2010

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف رونز الثلاثاء يونيو 12, 2012 10:48 am

    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    جميلة جدااا
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى
    Admin


    عدد المساهمات : 5250
    نقاط : 25959
    السٌّمعَة : 746
    تاريخ التسجيل : 02/03/2010
    67
    الموقع : مؤسس ومدير المنتدى / القلم الذهبي / القلم الماسي / درع الابداع / وسام الابداع

    تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني  Empty رد: تكملة رواية شبح الموت / الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف مؤسس المنتدى الأربعاء يونيو 13, 2012 9:00 am

    رونز كتب:
    Admin كتب:
    ( 13 )

    وتمضي أيام الشهر ثقيلة على الجميع ويحين موعد الفصل العشائري ويتهيأ الرجال منذ ساعات الصباح الأولى ، مجموعة تهيأ مضيف الشيخ لاستقبال الضيوف من السادة الأشراف ورؤساء العشائر الأخرى ومجموعة تذبح الخراف وتجهز القدور لتهيأ الطعام للضيوف ، وأخرى تحمل راية العشيرة وتربطها بإحكام لترفرف فوق مجلس الفصل العشائري 0
    أما النسوة فقد انشغلنّ بإعداد الخبز ومساعدة الرجال بعملية الطبخ فلا تسمع لهنّ بكاء ولا صوت أو نداء الكل يعمل بهمة عالية وقد تناسوا آلامهم وهم يعدون العدة لاستقبال الضيوف 0
    أما القهوجي فقد وقع عليه وزر اكبر من ذي قبل وعليه أن يهيأ القهوة العربية التي تليق بالضيوف والتي تغطي أعدادهم الكبيرة لهذا اليوم فقد هيأ دلاله وأوقد النار وبدأت يداه تداعب حبات الهيل بلطف ليضيفها إلى القهوة التي يسعى لتقديمها 0
    يوم ليس ككل الأيام وجمع من الناس سيختلف عن مجالس أيامهم المعتادة ، لقد عمل شيخ السعادنه اتصالاته المسبقة مع شيوخ بعض العشائر والسادة الأشراف ليقفوا إلى جانبه في معركة الفصل وإحقاق الحق 0
    أما عشيرة الجناودة فقد اتصل شيخها بشيوخ بعض العشائر أيضا وبالسادة الأشراف ليساندوه في هذا اليوم ويخففوا عن كاهله مبالغ الفصل العشائري الذي قد يحكم به ، أما الوسطاء الذين انهوا الصراع وأوقفوا أطلاق النار فقد وقع على كاهلهم وزر كبير لأنهم سيتصدرون المتحدثين واليهم يستمع الجميع وهم وسطاء خير وعدل وأنصاف 0
    بدأ التجمع في ربوع عشيرة الجناودة من السادة الأشراف والشيوخ والضيوف وما أن اكتمال العدد توجهوا إلى حيث عشيرة السعادنة تتقدمهم راية العشيرة وما ان وصلوا المكان المحدد خرج أليهم الرجال لاستقبالهم والترحيب بهم وكأن لا خلاف بين العشيرتين ولا دم قد سال وأرواح قد زهقت ، نعم هذه أخلاق العرب يرحبون بضيوفهم مهما كان السبب 0
    دخلوا إلى مضيف الشيخ يتقدمهم السادة الأشراف لان لهم الحظوة الكبرى كيف لا وهم من نسل آل محمد صلوات الله عليهم 0
    ويجلس الفريقين المتخاصمين ومن جاء معهم كل فريق بجهة متقابلين والعمائم السوداء للسادة الأشراف تتصدر المجلس في كلا الجهتين وبعد الترحيب وواجب الضيافة حيث ارتشفوا القهوة العربية ، ساد الصمت الجميع وبدأ الوسطاء بالحديث ونطق السادة الأشراف بتلاوة القرآن الكريم ثم السلام على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل محمد من آل البيت الأطهار والأبرار ثم بدئوا بذكر القصص التاريخية لحوادث كثيرة وكيف كان دور الأئمة الأطهار في حل النزاعات كما تطرقوا إلى حوادث بين العشائر الأخرى مماثلة وكيف فضت النزاعات بينهم وان الأساس في فض الخلاف هو ليس المال وإنما هو التكريم والتقدير للعشيرة المنكوبة وإعلاء شأنها بين العشائر الأخرى 0
    ويبدأ السجال على أوج عظمته ، عشيرة السعادنه تطرح ما وقع عليها من ظلم وكيف هدر دم ابنها قاسم دون سبب يستوجب القتل وكيف تطور النزاع ليصيب العشيرة بمقتل 0
    أما عشيرة الجناودة فبدأت تبرر ما حصل وتقدم الأعذار وتعطي الجميع صورة ما حصل وسبب ما آلت أليه الأمور ، ويحتدم الجدل بين العشيرتين وتثار عصبية عارمة كادت تنسف مساعي الخير ، فالرجال خارج المجلس يحملون أسلحتهم مهيأين لفعل قد يصيب العشيرة الأخرى بأذى ولكن ليس وهم جالسون في مضيفهم بل ينتظرون مغادرتهم ووصولهم إلى مضاربهم لتبدأ معركة أخرى 0
    رفع احد السادة الأشراف يده عاليا وهو يقول يا جماعة الخير جئنا للصلح لا لإعادة المشاكل وتأجيج الصراع أعطونا فسحة من الوقت لنقرر بأذن الله تعالى ما يتوجب على الجميع القبول به من اجل إحقاق الحق 0
    صمت الجميع وساد القوم الوجوم وطلب كلا الشيخين ( السعادنة ، الجناودة ) من رجالهم التزام الهدوء وعدم التحدث بعصبية ، وبعد جدال طويل وشد وإرخاء وبعد الأخذ والعطاء وبعد مضي ساعات طوال يتوصل جميع الفرقاء إلى الحل الذي يرضي الجميع وذلك بفضل حنكة ومعرفة بواطن الأمور للسادة الأشراف والشيوخ الحاضرين حيث اكتسبوا خبرة في هذه الأمور توارثوها من المجالس والدواوين 0
    نعم تم حسم الخلاف قتيل بقتيل ، وجريح بجريح ، ودابة نفقت بدابة نفقت من الطرف الأخر وما زاد عن ذلك من قتلى وجرحى تدفع ديته للطرف الأخر 0
    وحصل الإرباك من جديد وعمت الفوضى من قبل الشباب المتحمس الذين لم يرضوا بهذا الحل واعتقدوا أنهم قد غبنت حقوقهم 0
    ما كان من السادة الإشراف ألا أن يوضحوا الصورة للجميع وخاصة من أبناء السعادنة الذين لم يعجبهم هذا الحل ، قال كبير السادة الحاضرين بالعمر يا أولادي أن من قتل قاسم شخص واحد فقط من الجناودة كان بإمكانكم أن تتربصوا به وتقتلوه ليكون قتل بقتل ودم بدم ، لا أن تحملوا سلاحكم وتطلقون النار على جميع الجناودة ليحصل ما حصل يا أولادي لقد أخذتكم عصبية القبيلة وفورة الدم لتسحقوا كل شيء واقصد القيم والأخلاق وتناسيتم صلة القربى والمصاهرة بين العشيرتين وأمام ما حدث ليس لنا ألا أن نحكم بالحق وهذا الذي سمعتموه هو الحق 0 هدأت عاصفة الغضب مرة أخرى ونطق بالحكم وحدد مبلغ من المال ليعطى إلى السعادنة وهنا بدأت مرحلة من الصراع لكنها صراع من نوع خاص فيجب أن يقدر السادة الحاضرين وينقص مبلغ من المال إكراما لهم وتم ذلك ثم يجب أن تكرم جميع العشائر الحاضرة وينقص من المبلغ جزء منه أكراما لكل عشيرة وأخيرا نودي بأن اجلبوا راية العباس عليه السلام وهي راية بيضاء معقودة لا تفك عقدتها ألا بعد إنقاص مبلغ الفصل العشائري بمبلغ يليق بهذه الراية وهذا تقليد ساري المفعول عند عشائرنا 0
    جيء بالراية وسلمت لأحد السادة الأشراف وانقص المبلغ 0
    والجميع راضين دون تردد وفك عقدتها وانتهى فصل الصراع وبدأت بوادر المحبة عند الجميع وقام كلا الفريقين بتقبيل رجال الفريق الأخر 0
    ثم نودي بالشباب أن اجلبوا طعام الضيوف وكانت سفرة عامرة تليق بالضيوف الكرام وأصبح الزاد والملح يسود العشيرتين من جديد وبذلك أطفأت نار قدر لها أن تحرق الأخضر واليابس لولا تدخل العقلاء 0

    ( 14 )

    تنفس الناس الصعداء بعد انتهاء هذه الجلسة وحسم قضية الفصل العشائري ، وما أن خمدت النار بين العشيرتين حتى بدأت معركة أخرى تدار رحاها بين العشيرة الواحدة لكنها معركة من نوع أخر ، فعشيرة الجناودة بدأت تلوم قاتل قاسم وتسرعه باستخدام السلاح بل وحملت عائلته الوزر الأكبر من مبلغ الفصل العشائري وجمع الباقي من جميع أفراد العشيرة وحسب البيوت وبنسب متفاوتة ، وبدأ العقلاء من القوم بتحذير أبناء عمومتهم من مغبة استخدام السلاح دون وجهة حق لكي لا تضطر العشيرة لدفع البلاء عنها بدفع الدية للآخرين 0
    أما عشيرة السعادنه فقد بلغ فيها احتدام الصراع إلى درجة لا تطاق وذلك لان مبلغ الفصل العشائري الذي وزع على عوائل القتلى والجرحى لا يمكن أن يعيد أليهم ما فقدوا من رجال قتلى في هذه المعركة ولا يمكن للمبلغ نفسه أن يشفى جراح الجرحى وعوقهم كما أن هذا المبلغ الذي وزع على العوائل المتضررة من المعركة والتي فقدت قطيع جاموسها لا يمكنها من تعويض ما فقدت وبنفس العدد 0
    اقتسام للدية أثار جدل كبير بين أبناء العشيرة الواحدة بين مقتنع بما حصل وبين غير مقتنع والنتيجة واحدة لا تغير من الحقيقة شيء 0
    أما عائلة حسن فقد بدأت تفكر جديا بترك القرية والهور نهائيا والسكن بالمدينة طلبا للراحة والخدمات ، حسن من جهته حريصا على المغادرة والآراء تطرح للنقاش والمشورة بين أفراد العائلة وتصطدم الآراء وتتقاطع وجهات النظر ويؤجل موضوع الهجرة إلى وقت لاحق وكأن قدر العائلة بعد فقدانها لجزء من القطيع أن تنهي حياتها في الهور 0
    ــ حسن : يا والدي سئمنا العيش هنا
    ــ الوالد : لا يا ولدي هنا ذكرياتنا وأقربائنا إلى أين تريد بنا وان رجل عجوز لا اقوى على البعد
    ــ حسن : إلى بغداد العاصمة الحبيبة نلحق بمن سبقنا يا والدي
    هز الوالد رأسه غير راضٍِِِ مما سمع وأيقن حسن أن لا فائدة من الحديث ألان ، ترك والده وخرج من الدار يتمشى على حافة الهور وهو ينظر إلى الماء شريان الحياة وحين يسمع صوت الماء المتدفق مصحوبا بجمال الطبيعة تهدأ نفسيته ويرتاح خاطره ثم يجلس على التراب وهو يحمل قطعة من القصب البردي يداعب بها صفحة الماء بحركة هادئة ، ثم يمسك بقطعة من الحجر ويلقي بها في الماء وهو يتابع الدوائر التي أحدثتها على صفحة الماء وفجأة يتذكر صديق عمره واعز أصدقائه فينفجر بالبكاء وتهطل الدموع من مآقيها على خديه دمعة بعد دمعة حتى تسقط قطراتها في ماء الهور وتمتزج فيه ولم يعد يعرف أين دمعاته التي سقطت وتساءل مع نفسه أ هنا ستولد الأحزان من جديد ؟ أ هنا سيكتب تاريخ صداقة انتهت بالموت ؟ 0
    يترك مجلسه ويمضي إلى أين لا يدري فهو لم يحدد وجهته بعد ، لكن من حيث المبدأ سوف لن يمر على أصدقائه هذا اليوم وهو مثقل بالهموم والأحزان ، سارت به قدميه إلى حيث لا يجب أن يكون وحين وصل المكان خر إلى الأرض وهو يصرخ كالنساء وقد امسك بكفيه تراب الأرض هنا قتل قاسم ، هنا خضب بدمه الأرض فامتزجت دموعه بالتراب هذه المرة وهو يقبل ذراتها ، لا زال حسن في حالة ألا وعي وفجأة تمد أليه يد وتربت على كتفيه وتحاول إنهاضه وبصوت خافت حنون قم يا ولدي فأن الله عوضني بك وأنساني قاسم قم يا ولدي فمحبتك لابني هي رصيدي في هذه الدنيا ، يرفع حسن رأسه مذهولا من أم قاسم ، نعم يا ولدي قالتها وهي تمسح دموع حسن بإبهامي كفيها ثم قبلت رأسه وهي تقول كل أولاد القرية أولادي فلا تبتئس يا حسن كلكم أولادي ، ينهض حسن من مكانه وينتصب بقامته ثم يقبل يد أم قاسم وهو يقول كلنا أولادك 00 كلنا أولادك 0
    غادرها وهو يشعر بارتياح غريب ملئ أعماقه وتسارعت خطاه إلى أين هذه المرة يا حسن ؟ 0
    سؤال طرق تفكيره وهو يقول إلى منزلي ، دخل إلى داره مطمأنا هادئ وقد أبصره والده من مسافة غير بعيدة وهو متحير مما رأى لقد غادرنا حزينا قلقا وعاد ألينا مطمأنا هادئ حمدا لله مغير الأحوال من حال إلى حال 0

    ( 15 )

    لم تمر سوى شهرين على الفصل العشائري للعشيرة بلغ خلالها حسين العاشرة من عمره وكان ذلك عام 1956 م في هذه الفترة توفى والد حسن ، أطلقت النسوة صرخاتها وبدأت العويل والبكاء ثم أطلق حسن رصاصات نارية في الفضاء أشارة لأقربائه فتجمعوا في داره ثم تم نقل الجثمان بتشيع مهيب كبير إلى مثواه الأخير في مقبرة النجف 0
    ما كان من حسن ألا أن يعد ويجهز الأمور لإقامة مجلس العزاء لوالده والذي يستمر ثلاثة أيام متواصلة يقرأ خلالها القرآن الكريم وتوزع القهوة العربية على المعزين ثم يقدم لهم طعام الغذاء والعشاء ، ويحضر الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر الأخرى لهذا المجلس كما أن حسن وأفراد عشيرته كانوا باستقبال المعزين والحرص على تقديم الخدمات لهم 0
    وفي اليوم الأخير من أيام مجلس العزاء وقبل آذان المغرب ينصب المنبر الحسيني في مجلس العزاء فيرتقه احد السادة الأشراف ليلقي على المعزين محاضرة قيمة وذلك بعد أن يبدأ حديثه بقراءة القران ، يبدأ بالحديث عن الحياة والموت والجنة والآخرة مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال آل البيت الأطهار ثم يعرج إلى مصاب آل البيت في كربلاء وكيفية استشهاد الأمام الحسين عليه السلام يعرج على هذه السيرة وهو يبكي وينطق الكلام بحزن شديد وجميع الحاضرين صامتين يستمعون لما يقول وبعد انتهائه من خطبته هذه يترجل من المنبر 0
    ويبدأ حسن وأقربائه بتقديم طعام العشاء للجميع يعقبه توزيع الشاي وبعد خروج المعزين ينتهي مجلس العزاء في يومه الثالث والأخير 0
    كان حسن متألما كثيرا لفقده والده وكان الحزن ظاهرا عليه بشكل واضح وكأن قدر حسن أن يعيش الأحزان فمن خسارته لصديقه قاسم حين قتل إلى خسارته لوالده حين توفى 0
    نعم أصبح حسن منذ وفاة والده يحمل ثقلا آخر وهو مسؤولية العائلة التي أصبح ولي أمرها وعليه أن يتخذ القرارات الصائبة لخدمة هذه العائلة ويدير شؤونها بحنكة وعقلانية وعليه أن يكسب ثقة الجميع من خلال قيادته لهم فهل سينجح بذلك ؟ 0
    وتمضي الأيام وتمر بضعة شهور وحسن حريص على عائلته اشد من حرصه على نفسه ويسعى لتوفير متطلبات المعيشة للجميع رغم صعوبة الأحوال وخسارته لقطيع الجاموس في معركة ليس له بها شيء 0
    ــ حسن : يمه الحياة صعبة بالهور خلينه نهاجر لبغداد
    ــ والدته : اوليدي وين نروح والمن نعرف أهناك الولاية جبيرة يمه
    ــ حسن : عدنه أقرباء نزحوا كبلنه يمه أنروح يمهم واشتغل عمالة وندبر العيشة
    ــ والدته: بكيفك يمه أنت أبو البيت واحنه وياك وين متروح
    فرح حسن حين حصل على موافقة والدته واقنع باقي العائلة بذلك أيضا 0
    بدأ حسن يعد العدة للمغادرة ويهيئ مستلزماتها وباع ما تبقى عنده من جاموس وباع مشحوفه وباقي المواد التي لا يحتاج أليها في بغداد 0
    جمع حصران القصب وأعمدة الخشب والأثاث البسيط الذي تملكه العائلة وحمل ذلك في سيارة بيك آب شوفرليت ، ودع العائلة الأقارب والأصدقاء من النسوة في الهور كما ودع حسن رجال القرية وشيوخها ووجهائها ولم ينسى حسن أصدقائه ووداعهم الذي كان من اصعب اللحظات عليه وعليهم ، احتضن حسن جاسب ثم عباس في وداع ساخن والدموع تنهمر من عيونهم بغزارة وداع مفارق لن يعود أليهم وكأنهم في لحظة الوداع هذه قد فقدوا اعز الناس أليهم وفاة لا مهاجرا ، حمل حسن عائلته وانطلقت سيارة البك آب تشق الطريق إلى المجهول والنساء تبكي وهنّ يودعن أم حسن وشقيقاته وزوجته والرجال تنهمر الدموع من مآقيها حزنا على وداعهم والجميع يلوح بيده مودعا ويدعوا لهم سلامة الوصول 0
    انطلقت السيارة في الطرق الترابية مخلفة ورائها غبار متطاير ملئ الفضاء وكون حاجبا ترابيا لا يرى منه المودعون من في السيارة ، واصل سائق السيارة انطلاقه حتى وصل مركز مدينة العمارة وبعد تزودهم بالطعام وملئ خزان الوقود بالبنزين انطلقوا برحلة المجهول إلى بغداد العاصمة التي يرومون العيش بها 0

    ( 16 )

    في الطريق إلى بغداد كانت والدة حسن قلقلة جدا أين سنسكن وهل يعرف حسن الطريق إلى الأقرباء الذين هاجروا قبلنا إلى بغداد ؟ 0
    وبين هواجس والدته وبين دمعة نزلت على خدها والأسى الذي غمرها قالت حسنة ماذا بك يا عمة ، يا أبنتي أننا ذاهبون إلى المجهول إلى أللا مكان ، كيف ذلك يا عمتي وحسن معنا ، حسن لا يعرف أين يذهب سوى انه أراد بغداد هدفا له ، أيعقل ذلك يا عمتي الم يقرر أين سنسكن وأين سنحط الرحال ، يا ابنتي أن زوجك قرر الذهاب إلى بغداد لا غير ولكن أين فيها فهو لا يعرف ذلك وهذا ما يقلقني 0
    لا زالت السيارة البك آب تسير بسرعة متفاوتة وهي تلتهم الطريق التهاما إلى حيث العاصمة وتقطع المسافات الشاسعة بين المدن أحيانا وبين المساحات الترابية الخالية من أي أعمار أحيانا أخرى 0
    لاحظ سائق ألبيك آب أن حسن سارح في أفكاره وهو حبيس هواجسه فأراد السائق أن يكسر حاجز الصمت ويخرج حسن من دوامة الأفكار التي يمر بها
    ــ السائق : إلى أين في بغداد أنت ذاهب يا حسن
    ــ حسن : لست ادري
    ــ السائق: كيف ذلك
    ــ حسن : نصل العاصمة أولا ثم أرى إلى أين اذهب
    استغرب السائق من هذا الطرح الغير منطقي لصاحبه الذي لا يعرف إلى أين يذهب ومعه عائلته أ يعقل هذا ؟ وهل بغداد ستفتح ذراعيها له وتوفر العمل والمأوى ؟ ألا يدري حسن أن من ليس له هدف يصل أليه أو أقرباء يحتضنوه سيضيع في زحمة بغداد ؟ 0
    استمر السائق بالسير وعيناه ترقب الطريق ثم يختلس النظر إلى حسن فيراه حيران كأنه تائه في دوامة من الأفكار ولا يعرف أين سيكون له قرار ، وساد الصمت من جديد والسيارة تقطع الطريق الإسفلتي المتعرج ذات اليمين وذات اليسار متجهة إلى بغداد والطريق طويلة وتحتاج إلى أنيس يتحدث مع السائق ، ولا أنيس بجانبه سوى حسن الصامت دون كلام وكأن الأقدار رمته في بركان الصمت ولا يعرف متى سينفجر وتصب حممه على اقرب الناس أليه 0
    شغل السائق مسجل السيارة وبدأ يستمع إلى أغاني الريف وبصوت الفنان المبدع داخل حسن يستمع إلى ألحانها وكلماتها المؤثرة ويطرب معها بصدق المشاعر والأحاسيس ، ألا أن حسن خارج هذه المتعة وكأنه لا يسمع الغناء أو كأنه لم يتمتع به سابقا حين كان بالهور 0
    لا زالت السيارة تسير باتجاهها مسرعة أحيانا واقل سرعة أحيانا أخرى وحسب متطلبات السير والازدحام 0
    لا زال السائق يختلس النظر إلى جليسه حسن فلم يعجبه الحال وأيقن مع نفسه أن حسن قرر الذهاب إلى بغداد دون تخطيط مسبق ، وحدث السائق نفسه لو كان حسن بمفرده فلا مشكلة بذلك لكن معه عائلته وغالبيتها من النساء أين سيمضي بهذه العائلة ؟ 0
    لم يتمالك السائق نفسه وهو يحدث نفسه فخرجت بعض كلماته بصوت مرتفع 00 بهذه العائلة 00 ثم استدرك وصمت ، سمع حسن هذه العبارة وقال للسائق ماذا بك أراك تحدث نفسك بصوت مرتفع ، نعم والله لقد خرجت بعض كلماتي بصوت مرتفع وأنا احدث نفسي لان همي الوحيد هو عائلتك يا حسن ، ما بها ، أين ستقيم معها في بغداد ، لست ادري قلت لك نصل وأقرر ، يا حسن بغداد واسعة الأطراف ممتدة الاتجاهات من ليس له فيها دليل سيتيه في محلاتها وشوارعها وأنت معك عائلة ، الله كريم يحلها الحلال ، ابتسم السائق لبساطة تفكير حسن وأيمانه بالله وشعر أن صاحبه ذو نوايا حسنه ولا يعي ما تعني بغداد بمساحتها الواسعة لمن لا يعرف طريقه فيها 0
    استمر السائق بقيادة السيارة وهو يبتسم وينظر بمرآة السيارة ليحدد طريقه ويعرف السيارات التي خلفه فيعطي لها الطريق ويداه تحركان مقود السيارة برفق يمينا ويسارا 0
    وعاد الصمت من جديد وأخذت الهواجس والأفكار مأخذا من حسن كلما اقتربت السيارة من بغداد وتساءل هل أنا ذاهب إلى المجهول فعلا ؟ هل أنا ذاهب إلى حيث اللا نهاية حيث لا هدف لي أصل أليه ولا أقرباء بانتظاري وتزاحمت به الهواجس والأفكار وأصاب وجهه الوجوم وبدأ يأكل بأطراف أنامله وهو مرتبك حائر ماذا سيفعل بدأ حسن بوضع أصابعه بين أسنانه ويضغط عليها بشدة نعم أنها أصابع الندم ترى هل اعترف حسن بقراره الخاطئ ألان ؟
    لاحظ السائق 00 حسن وهو بهذه الوضعية الحرجة جدا وقرر على الفور أن يريح حسن بالحديث معه وإعطائه بصيص الأمل
    ــ السائق : ما بك يا حسن
    ــ حسن : يبدو أني أخطأت بقراري
    ــ السائق : لا بأس يا حسن ، ستفرج بأذن الله
    صمت السائق قليلا وحسن لا زال ينظر أليه لعل الحل معه كيف لا وهو سائق السيارة ويعرف طرق بغداد ومحلاتها ودروبها ثم أردف قائلا أكمل يا صاحبي ، عندها ابتسم السائق ابتسامة عريضة ملئت ملامح وجهه سرورا ، أو تضحك يا صاحبي ، بلى والله لقد واجهت حالات قبلك شبيهة بحالتك فلا تبتئس ولا تحزن ولا تأخذك الهواجس والأفكار بعيدا فالحل عندي بأذن الله ، أليّ به لتهدأ نفسي وتطيب مشاعري وليبرد بركان الهواجس بأعماقي أليّ به يا صاحبي ، قبل فترة ليس ببعيدة جلبت عائلة الحاج محمد ابن قريتكم جلبته إلى بغداد وأنا اعرف أين يسكن سأوصلك أليه عسى تجد لك مأوى وتستقر مع العائلة ، حمدا لله وشكرا لك يا صاحبي قالها حسن وهو فرح بما سمع 0
    أدار حسن رأسه إلى الخلف وهو يحدث والدته لقد فرجت يا أماه لقد عرفت أين سنكون قالها وهو يبتسم ، فوجئت والدته وهي ترى السرور على وجهه أين سنكون يا حسن وأين سنسكن ، سنذهب إلى عائلة الحاج محمد يا أمي فالسائق يعرف الطريق أليهم ، حمدا لله يا ولدي ألان هرب مني الخوف وابتعدت عني الهواجس السيئة ألان سنستقر إلى حين يا ولدي 0
    بدأ حسن يتحدث مع السائق بكثرة وكسر حاجز الصمت الذي كان يهيمن عليه وانطلقت الأغاني من بين شفتيه بأعذب ما يكون الغناء والسائق لا زال يقود سيارته مسرورا بالفرحة التي عمت العائلة وحالة الاطمئنان التي هم فيها وبدأ يبادل حسن الأحاديث وشعر لأول مرة أن الطريق بدأ يقصر وان المسافة مهما كانت طويلة أصبحت قصيرة لان الحديث بينهما قد أنساهم البعد الحقيقي للطريق 0
    وما هي ألا ساعات معدودة ويصلون بغداد ويستقر بهم الحال في مدينة غريبة عليهم بعاداتها وطرق معيشتها وشوارعها ومبانيها ، مختلفة بأخلاقياتها وأزيائها وناسها والعلاقات التي تربطهم ، مختلفة بكل شيء سمائها وهوائها ومائها وخدماتها فهل سينعمون بخيراتها ؟ 0
    وهل سيجدون عائلة الحاج محمد في نفس المكان الذي أوصلهم أليه سائق السيارة ؟ 0
    وأسئلة كثيرة تزاحمت في رؤوس جميع أفراد العائلة تنتظر الجواب 0
    ( 17 )

    وصلوا بغداد بعد جهد جهيد ومشقة طريق وصلوها منهكين متعبين وقد تفاجئوا مما شاهدوه في بغداد فهذه هي المرة الأولى التي يغادرون فيها الهور ويدخلوا بغداد وربما لن يفارقوها بعد ألان أذا أعجبتهم الإقامة فيها 0
    عيونهم ترصد مبانيها بانبهار ودهشة وعيونهم ترصد طرقاتها باندهاش كبير كما أنهم تعجبوا اشد التعجب حين شاهدوا بنات بغداد بأزيائهنّ الغير مألوفة عندهم والتبرج اللواتي هنّ فيه من ماكياج وغيره وبدأ الهمس بين النسوة في حوض ألبيك آب الخلفي وهنّ يرصدنّ تلك الفتيات ما هذا الجمال ؟ وما هذا الانفلات الأخلاقي ؟ أليس من العيب أن تظهر النسوة هكذا ؟ 0
    أسئلة كثيرة ازدحمت بها رؤوس النسوة مصحوبة بالحيرة والتعجب ، وحسن كان منشغلا ينظر يمينا ويسارا وهو يشاهد النسوة في شوارع المدينة فازدحمت برأسه الأفكار والأسئلة ألا يوجد لديهنّ ولي أمر ( أب ، أخ ، زوج ) يمنعهنّ من هذا التبرج أو يخشى عليهنّ من مشاكسات الطريق ، وهو في حيرته هذه قال له السائق لا تعجب يا حسن ولا تأخذك الأهواء والهواجس بعيدا فما زالت الأخلاق باقية عند نساء بغداد ولا زال الشرف والعفة والكرامة لها حصة كبيرة لدى البغداديين أن ما تراه ألان هو ضرورة من ضرورات التطور في المدينة ، هز حسن رأسه وهو غير مقتنع مما سمع 0
    وصلت بهم سيارة ألبيك آب إلى المنطقة المحددة حيث دار الحاج محمد توقف السائق وأشار بيده هناك في تلك الدور يسكن الحاج محمد وعائلته في منطقة الميزرة ( المجزرة ) حيث يلفظ أهلنا في الجنوب الجيم ياءا باللهجة المحلية والميزرة هي المنطقة المحصورة بين سدة ناظم باشا الترابية الواقعة بإطراف المدينة وبين منطقة الشيخ عمر القريبة من كراج النهضة وهي منطقة ترابية شيدت فيها بعض الأكواخ وبيوت القصب البردي التي تسمى الصرائف 0
    سدد حسن الأجرة للسائق وطلب من النسوة أنزال العفش وقد لاحظ مجموعة من الأطفال بملابسهم الرثة يلعبون وقد اتسخوا بالأتربة والطين حيث ان برك الماء الآسن منتشرة فيها وتحول لون الطين إلى الأسود والرائحة الكريهة تزكم الأنوف كما لاحظوا بعض النسوة يحملنّ الأواني المعدنية لجلب الماء النقي من المنطقة المجاورة ، وقف حسن ينظر إلى هذا البؤس والحياة الصعبة هنا وحين هم بالدخول لاحظ احد الرجال قادما باتجاهه وبعد تبادل التحية والترحيب بهم والابتسامات كانت تعلو الوجوه 0
    ــ حسن : أين دار الحاج محمد
    ــ الرجل : ( وهو يشير بيده ) هناك بجوار البيت المشيد من علب الصفيح
    توجهوا إلى حيث دار الحاج محمد ، وحين رآهم نهض من مكانه لاستقبالهم ولهفة الشوق تبدو على محياه ، وقد احتضن حسن بين ذراعيه وهو يقول حياكم الله ، ادخل النساء بغرفة نسائه وهو ممسك بيد حسن ثم استدعى الحاج محمد على شباب المنطقة وحين تجمعوا طلب منهم أن يهيئوا معاولهم ويستعدوا لإنشاء دار لعائلة حسن هنا بقربه ، وحين انشغل الشباب بالعمل طلب الحاج من زوجته ان تهيئ طعام الغذاء للضيوف ، لا يوجد شيء يبيض الوجه يا حاج ، مما متوفر لديك من الطماطم والباذنجان والخضر هذا هو حال الفقراء فلا تبتئسي 0
    كان حسن ينظر إلى الشباب وهم يعملون بهمة عالية لتشيد داره وكان ينظر يمينا ويسارا فيرى البؤس واضحا هنا وقد حدثته نفسه أ تركت البؤس هناك لتجده هنا بل وأكثر مشقة وفقرا 0
    أتم الشباب تشيد الدار وهو عبارة عن عدة أكواخ صغيرة من حصران القصب البردي وأعمدة الخشب وقد سوروها بسياج من سعف النخيل اليابس المثبت بالأرض 0 دور الميزرة بسيطة في تشيدها ومواد بنائها وتعكس حالة الفقر والعوز لأصحابها لأنها تفتقد إلى ابسط مقومات الحياة الإنسانية والصحية هي عبارة عن أكواخ وصرائف منتشرة هنا وهناك ولا تتوفر لساكنيها الخدمات وتحيط بها برك الوحل والأطيان والماء الآسن ورائحة المكان نتنة تزكم الأنوف وسكانها يتعرضون لهجوم المكروبات والفيروسات بشكل سهل جدا 0
    شكر الحاج محمد الشباب لما بذلوه من جهد في تشيد الدار وعبروا له عن امتنانهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة تطلب منهم ثم غادروه كلا إلى بيته ، دخل الحاج محمد بصحبة حسن إلى الغرفة وجلسا فيها ثم استدرك الحاج حين انتبه أن والد حسن ليس معهم 0
    ــ الحاج محمد : أين والدك يا حسن ، لِمَ لم يأتي معكم
    ــ حسن : وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض إلك طولت العمر يا حاج لقد توفى والدي
    أجهش الحاج محمد بالبكاء لفقده أقربائه واعز أصدقائه وهو يقول متى ذلك ، فيجيبه حسن قبل عدة أشهر وهو يربت بيده على كتف الحاج محمد ، والحاج محمد يمسح بدموعه ويقول لا حول ولا قوة ألا بالله ما يدوم ألا وجهه الكريم 0
    وبعد تناول الطعام غادر حسن وعائلته دار الحاج محمد إلى دارهم ، وقامت زوجة الحاج بنقل الماء بعلبة من الصفيح إلى دار حسن لكي يستخدموها لهذه الليلة واتفقت مع النسوة أن يذهبنّ معها عند الصباح لجلب الماء من المنطقة المجاورة 0
    أصيب وجه حسن بالوجوم وهو يدخل داره غير راض عن نفسه وتصرفه لكنه أيقن انه سيقيم هنا دون رجعة 0
    ( 18 )

    دخل حسن داره وهو يلوم نفسه كيف تركت الهور وجئت بالعائلة إلى هنا حيث الحياة البائسة الصعبة وهل سأجد لي عملا اكسب به رزقي ورزق العائلة 0
    ألقى بجسده على الفراش متعبا وغط في النوم وامتلئ فضاء الكوخ بشخيره ، وعند الصباح الباكر نهض من نومه وأيقظ زوجته من نومها طالبا منها إعداد وجبة الفطور، كيف ولا يوجد عندنا شيء أعده لكم ، حسنا سأخرج بحثا عن السوق واجلب البيض وما عليك إلا إعداد خبز السياح ( الخبز المصنوع من طحين الرز ) 0
    خرج من داره وإذا بعائلة الحاج محمد تجلب لهم صينية الفطور ، شكرا لكم على صنيعكم هذا ، هذا واجبنا يا ابن العم 0
    دخل حسن وهو يحمل الصينية فناداه الحاج محمد تعال أليّ بعد أن تكمل الفطور يا حسن ، أن شاء الله يا حاج 0
    أتم فطوره وتناول الشاي الساخن ثم ارتدى ملابسه الدشداشة والكوفية والعقال 0
    ذهب إلى الحاج محمد وخرجا معا يسيران على الإقدام ، يا ولدي عليك اليوم أن تشتري احتياجات البيت من السوق ، نعم يا حاج كنت سأبحث عن السوق ، أنا سأوصلك إلى هناك ونشتري كل ما تحتاج أليه ثم نعود أدراجنا 0
    وبعد السير لمسافة قصيرة وصلا السوق واشترى حسن كل ما يحتاج أليه وعادا إلى الميزرة وفي طريق العودة قال الحاج محمد يجب أن تعمل يا حسن ، نعم يا حاج ، غدا صباحا تهيئ نفسك وتجلب معك الكرك لتخرج مع الرجال إلى المسطر وهو مكان تجمع العمال عسى أن يبعث الله لك الرزق ، أومئ حسن برأسه وهو يقول أن شاء الله 0
    وصلا البيت وحسن مسرورا لما جلبه وسبب فرحته هو ما لديه من مبلغ مالي قليل بدأ بالتناقص كلما صرف منه شيء فرح لأنه قارن بين نفسه بصحبة هذا المال وبين نفسه بدونه 0
    قامت النسوة بأعمال البيت منذ الصباح وتهينّ للخروج مع عائلة الحاج محمد لجلب الماء من المنطقة المجاورة ، خرجنّ وهنّ يتحدثنّ والابتسامات تعلو وجوههنّ ألا واحدة منهنّ لم تبتسم أبدا وكانت والدة حسن حيث أن الحياة هنا لازالت غريبة عليها وتشعر بصعوبة التأقلم معها وكانت تحدث نفسها في الهور كان الماء بتناول أيدينا متى شئنا وهنا نقطع المسافات لجلبه ، ماذا بك يا أم حسن أراك شاردة الذهن ، لا شيء لا شيء ، كيف لاشيء وأنتِ شاردة الذهن وكأن جسدكِ يمشي معنا أما روحكِ فهي بمكان أخر 0
    كلنا في البداية كنا هكذا وسرعان ما تعودنا على هذه الحياة امضي معنا فلم يعد الماء بعيدا 0
    جلبنّ الماء ورجعنّ إلى الميزرة وافترقنّ كلا إلى بيتها تحاول الاستفادة من الماء بأعمال المنزل والطبخ والغسل 0
    أما حسن فقد شعر بالذل لأول مرة فهو جالس بلا عمل منذ أن رجع من السوق شعر بالذل وحدث نفسه أ هكذا اجلس في البيت كالنساء ؟0
    خرج من داره لعله يجد شيء يشغل به يومه هذا ، استمر بالسير في الطريق الترابي حتى وصل إلى مجلس لبعض الرجال ليس فيهم من هو بعمره الثلاثيني بل جميع الجالسين من كبار الرجال وبعمر الحاج محمد ممن لا يستطيعون العمل بسبب كبر السن وضعف البدن أو بسبب المرض فالجميع بادية عليهم علامات الزمن بما تركه على صفحات وجوههم من اثأر وأخاديد ، أدى التحية عليهم وردوا عليه بالمثل وطلبوا منه إن يستريح معهم ويشاركهم الحديث ، لبى رغبتهم وجلس وهو يستمع إلى أحاديثهم وقلبه يكاد ينفجر داخل قفصه الصدري حزنا وآلما واضطر أن يشاركهم الحديث مجاملة ، قلبه يعتصره ودقاته بتزايد ومن ينظر أليه يشعر انه سينفجر عما قريب ، ماذا بك يا حسن سأله احد الرجال ، لا شيء يا عماه ، ما بك يا ولدي ودقات قلبك تفضحك قل ما بك ، لا شيء لا شيء ويستمر الرجال بالحديث وضحكاتهم الخافتة تكاد تمزق مسامع حسن 0
    ويستمر المجلس وتستمر معه الأحاديث وحسن كأنه يجلس على موقد من النار وحرارتها ولهيبها تأكل من لحمه وحين هم بالنهوض مودعا مجلسهم فاجئه الحاج محمد قائلا
    ــ الحاج محمد : اصبر يا ولدي وغدا ستجد لك عملا
    ــ حسن : يا حاج سئمت الجلوس بلا عمل
    ــ الحاج محمد : يا ولدي انك حديث العهد هنا فلم يمضي عليك سوى يومين فلا تتعجل
    ــ حسن : نعم يا حاج
    ويستمر الحاج محمد بالحديث معه ويشاركه باقي الرجال وحسن يستمع أليهم وأيقن أن خبرة كبار السن لا غنى عنها 0
    ثم ابلغوه بان يهيئ أموره غدا ليخرج مع الرجال إلى العمل في المسطر حيث يأتي المقاولون لأخذ عمال البناء ، فرح حسن لذلك كثيرا وبدأ يشاركهم الحديث بجدية واضحة 0
    وحين استمروا بالحديث الممتع مع حسن طلب منه الحاج محمد أن يطربهم بصوته الشجي ويسمعهم إحدى الأغاني كما كان يرددها في الهور ، خجل حسن من هذا الطلب واحمرت وجنتاه لأنه لم يعرف الرجال الجالسين حق معرفتهم وهذه هي الجلسة الأولى له معهم 0
    كرر الطلب الحاج محمد وطلب من حسن عدم الإحراج فالجميع هنا بمنزلة والده وهم بحاجة إلى سماع شيء يذكرهم بالهور وأهله ، ونزولا لطلب الحاج محمد بدأ حسن الغناء بصوته الشجي الحنين مصحوبا ( بطك الأصبعتين ) وبضرب الساق برفق على الأرض وارتفع صوت حسن وهو يغني فسمعت غنائه النساء فتقدمنّ قرب أسوار المنازل وهنّ يشاهدنه يغني وقد أعجبهنّ غنائه وزرع صوته الشوق في قلوب أحداهنّ والتي تمنت أن تلتقي به منفردا لتعبر عن إعجابها بصوته وشوقها له 0
    وحين أتم حسن الغناء وواصل الحديث مع الرجال لم يكن يدور في خلده إعجاب تلك المرأة به ، أتم حديثه وترخص من الرجال بأن يسمحوا له بالمغادرة ، فأعطوه الإذن بذلك 0
    غادر حسن مجلسهم متوجها إلى بيته وهو يسير بالطريق الترابي بين البيوت وما هي ألا خطوات غير قليلة سمع صوت همس يخرج من احد الدور وما أن أدار رأسه باتجاه مصدر الصوت شاهد امرأة جميلة واقفة خلف السور المصنوع من القصب البردي وهي تقول لقد أعجبني صوتك وانأ كلي شوق إليك ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض خجلا مما سمع وأسرع بخطواته ، ضحكت هي بصوت مسموع فسمع ضحكتها فتعثر في مشيته ، فقالت اسم الله عليك عمري بيّ ولا بيك 0
    تسارعت خطواته مرة أخرى حتى وصل إلى بيته حائرا من أمر هذه المرأة التي لم يعرفها من قبل ولم يعرف ماذا تريد وما نواياها ، دخل داره مطمئنا على حصول العمل غدا بأذن الله استقبلته زوجته بابتسامة رقيقة وما أن دخل كوخه تساءل مع نفسه هل اخبر زوجتي بما حصل من تلك المرأة أم لا ؟ 0
    وهو في حيرته هذه خرج من كوخه إلى باحة الدار وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت ينادي يا أهل الدار ، تقدم إلى السياج الخارجي حيث المدخل ففوجئ حين رأى نفس المرأة وجه لوجه وهي مبتسمة وتقول ( وراك وراك وين ما تروح ) ارتبك حسن وتلعثم بالجواب فباغتته حين قالت احبك احبك ، ذهل حسن لا يدري ما يقول وإذا بزوجته تستقبل المرأة ( هله خيه أتفضلي ) 0
    انسحب حسن من هذا الموقف إلى داخل كوخه والمرأة تنظر أليه بإعجاب وهي تسير مع زوجته وتحدثها حديثا عاما من اجل التعارف بين العائلتين ، جلستا مع النساء وقامت شقيقة حسن بواجب الضيافة ، إني جيرانكم أم حيدر يعجبني أتعرف عليكم ، حياج الله ويا هله بالجارة وتستمر النساء بالحديث ألا أن أم حيدر قلقة جدا وعيناها ترقب كوخ حسن ربما يخرج منه فتمتعها برؤيته وقلبها يكاد يقفز من قفصه ودقاته تتزايد ، وحين شعرت أن حسن لن يخرج من كوخه نهضت من مجلسها مودعتا النساء ولا زالت عينيها ترقب كوخ حسن بل وتعمدت الحديث بصوت مرتفع وهي تودعهنّ على أمل أن يسمع حسن صوتها ويخرج كي تراه لكن دون جدوى 0

    ( 19 )

    لم تشعر أم حسن بالراحة لقدوم هذه المرأة حيث بفراستها عرفت أنها تبطن غير ما تظهر فتعجبت من سلوكها وتصرفاتها هذه كيف تأتينا ولم يمضي علينا سوى بضعة أيام كيف تأتينا بكل هذه الأريحية الزائدة والانفتاح التام دون معرفة وعينها ترصد كوخ حسن باستمرار وتساءلت مع نفسها هل لحسن علاقة معها وكيف عرفها ؟ 0
    وأثقلت نفسها بالأسئلة فقررت أن تقطع الشك باليقين ، ذهبت أليه في كوخه وهو منشغل بأمر المرأة حيران يفكر بأحوالها لا يدري كيف ستنتهي به الأمور وقد كسر حاجز حيرته صوت والدته حين قالت يمه حسن ، عاد إلى رشده وانتبه إلى حيث الصوت ووقف أمام والدته وهو يجيبها نعم يا والدتي ، من هذه المرأة يا ابني ، لست ادري فانا لا اعرفها 0
    ويستمر الحوار بينه وبين والدته طويلا وابلغها بحكاية الأغنية وما تبعها من أحداث
    ــ حسن : كنت احدث نفسي هل ابلغ زوجتي بهذه الحكاية حين دخلت إلى الدار
    ــ والدة حسن : احرص أن لا تحدثها ألان يا ولدي
    ــ حسن : لماذا يا والدتي
    ــ والدة حسن : اترك الأمر لي وسأحل المشكلة بطريقتي
    ويستمر الحديث بينهما وتدخل زوجته ويشترك الثلاثة بالحديث بموضوع آخر ليس له علاقة بهذه المرأة 0
    وفي الصباح الباكر نهض حسن وحمل معه الكرك بعد تناول طعام الفطور وتوجه إلى حيث الرجال من الجيران إلى المسطر يبحثون عن العمل وحين وصلوا هناك فتح الله لهم أبواب الرزق بقدوم مقاولي البناء فاخذوا الرجال إلى حيث العمل 0
    بدأ الرجال يتحدثون أن هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها جميعا على العمل يبدو أن قدوم حسن علينا جلب لنا كل الخير ضحك الجميع والسيارة التي تنقلهم لا زالت تسير بشوارع بغداد ، وحسن متلهف لرؤية تفاصيلها وكان يركز على المباني ويمني نفسه هل سيكون لنا دار مثل أهل بغداد وحين وصلوا إلى مكان العمل قال لهم
    ــ المقاول: ستعملون معي طيلة شهر كامل حتى أنجز بناء الدار فمن يعمل بجد وإخلاص أعطيه مكافئة ومن يعمل غير ذلك أعطيه أجرة يوم واحد واجلب غيره
    ــ الرجال : سنعمل بما يرضي الله أولا ويرضيك ثانيا نحن طوع يمينك في أي عمل
    أذن على بركة الله اعملوا مع خلفة البناء والذي سيوجهكم إلى العمل وسأعود عصرا لدفع أجوركم 0
    غادرهم هو إلى عمل خاص به منطلقا بسيارته ، توزع الرجال كلا إلى عمله ويهمس الواحد منهم بالحديث إلى الآخر لقد ضمنا عمل شهرا مقدما يبدوا أن حسن هذا مرزوق فقد أتانا الخير معه0
    عملوا جميعا بجد ونشاط وأنجزوا المطلوب منهم وقد كسبوا رضا الخلفة وفي فترة الغذاء جاء المقاول لهم بالطعام فجلسوا على شكل حلقة يتناولون الطعام والمقاول ينظر إلى ما أنجزوه من عمل وسر كثيرا لهذه الهمة العالية ، غادرهم مرة ثانيا واستمروا بالعمل بهمة عالية فهم لم يروا سابقا مقاولا يجلب الطعام لهم أبدا بل كانوا هم من يجلب الطعام ، عملوا بحرص وأنجزوا الشيء الكثير وحين قاربت الساعة الرابعة عصرا جاء المقاول أليهم وهو يرى بعينيه ما أنجز فرح كثيرا هذه المرة وعند الرابعة تم إنهاء العمل لهذا اليوم وتجمع الرجال وجمعوا عدة العمل في حين اختلى المقاول بخلفة البناء مستفسرا عن أيا منهم عمل بجد أكثر من غيره فاخبره الجميع عمل بجد ، ولكن لابد من متميز ، نعم حسن كان أكثرهم حرصا وجهدا 0
    توجه المقاول إلى الرجال ووزع عليهم أجورهم التي يستحقون ثم كافئ حسن بمبلغ زهيد وقال لهم لقد عملتم بجد وحرص جميعا وحسن زاد عليكم قليلا فكافأته وانتم ستكون لكم مكافئة نهاية الأسبوع أذا عملتم بنفس الهمة ، فرحوا حين سمعوا ذلك وهذا دليل على أنهم بقوا في العمل أيضا ، ثم قال لهم غدا تتجمعون في مكان واحد في المسطر وستأتيكم سيارتي لجلبكم فانتم ستكونون كادر العمل معي باستمرار فاحرصوا على ذلك ودعهم وانصرف 0
    وفي طريق العودة إلى الميزرة حيث يسكنون تبادلوا الحديث سيكون لنا عمل مستمر مع هذا المقاول ، نعم هذه المرة الأولى التي نحصل بها على هكذا عمل ، هذه بركات حسن قالها احدهم وضحك الجميع 0
    وحين وصلوا إلى دورهم بدئوا بقص الحكاية على عوائلهم وهم يحمدون الله على هذا العمل وكان من ضمن الرجال العاملين أبو حيدر زوج المرأة التي كانت تطارد حسن وحين قص عليها ما حدث زاد إعجابها به بشكل غريب وبدأت نوازع الشيطان توسوس لها بل واضطرمت النيران في قلبها شوقا أليه وبدأت تحلم بلقاء يجمعها يه وكيف ستمنحه جسدها وروحها ليتمتعوا بالحب والجنس 0
    ويستمر زوجها يسرد الحكاية وكيف حصل حسن على المكافئة نظيرا لجهده وقوة بنيته في انجاز العمل ، فشعرت زوجته بقوته ورجولته وأيقنت انه سيشبع رغباتها الجنسية العارمة ، طلبت من زوجها أن يدعوه للعشاء هنا في دارهم ، قال لها كيف ذلك وما عندنا لا يكفي لدعوته ومن معنا من الرجال ، قلت لك ادعوه وحده وليس كل الرجال وسأعمل لكم طعام يكفينا ادعوه غدا على العشاء يا أبا حيدر فقدوم الرجل كله خير علينا ، حسنا سأبلغه بذلك دون أن يعلم الجميع وسأطلب منه أن لا يخبر أحدا 0
    فرحت كثير وبدأت تفكر بما ستعمل من طعام لرجل أحبته بكل عواطفها 0
    وعند الصباح الباكر توجهوا إلى حيث المسطر وجاءت السيارة لتأخذهم إلى مكان العمل وهناك وأثناء العمل في الدار اختلى أبا حيدر بزميله حسن ووجه له الدعوة بمفرده للعشاء عندهم اليوم وطلب منه إن لا يخبر أحدا من الرجال لان إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بدعوة الجميع ، رفض حسن الدعوة وشكر أبا حيدر ألا أن أبا حيدر كان مصرا على حضوره ، رضخ حسن أمام إصرار الرجل وابلغه موافقته 0
    استمروا بالعمل كالمعتاد بهمة عالية لأنهم أيقنوا بان المقاول يختلف عن الآخرين بتعامله مع عماله وبنفس الوقت أرادوه أن يقتنع بهم أكثر ليكونوا كادره في كل أعماله المستقبلية 0
    وحانت الساعة الرابعة موعد انتهاء العمل لهذا اليوم وكان كسابقه حيث استلموا أجورهم المعتادة مع زيادة بسيطة من المال للجميع تثمينا لجهودهم وأخذتهم السيارة إلى حيث منطقتهم الميزرة بناءا على توجيه من المقاول وكذلك ستحضر السيارة صباحا لتأخذهم من نفس المكان فاطمئنوا للعمل معه فرحين 0
    وفي الطريق المودية إلى بيوتهم همس أبا حيدر بأذن حسن لا تنسى موعدنا على العشاء تعال وحدك ، فأجابه حسن سأحضر أن شاء الله 0

    جميلة جدااا

    الاجمل هو مروركِ سيدتي

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 10, 2024 2:55 am