ديوان:"خيوط ... مخبلة فراسي"
والأسئلة الحائرة
للمبدعة فاطمة بصور
قراءة الناقدوالباحث الاستاذ عبد الجليل بدزي
------------------------------------------------------
انطلاقا من عنوان هذه الإضمامة الشعرية: "خيوط ... مخبلة فراسي"، ندخل مجاهل هذا الإصدار في مغامرة لاشك أنها ستكون محفوفة بالبهاء والجمال، وبؤرة التوتر هنا نقاربها من خلال السؤال التالي: ما هي هذه الخيوط (لمخبلة) في رأس الشاعرة فاطمة بصور؟، وهل الخيوط (تتخبل) في الرأس أم أن الأمر يتعلق بشيء آخر رمزت له الشاعرة بالخيوط؟.
لابد أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي قبليا الرجوع إلى لحظة الانسجام الذي افتقدناه مع الانزياح الذي طال جملة العنوان، حيث الأشياء الممكن أن تتشابك في الرأس و(اتخبل) هي الأفكار والرؤى والتصورات والأسئلة، ليصبح العنوان بعد مرحلة التأويل: "أفكار أو قضايا أو أسئلة أو تصورات ... مخبلة فراسي"، وهذه الأفكار والأسئلة التي تشابكت لحد أنها أصبحت عصية عن الحل، لا تدور إلا حول واقع مرير تعيشه الشاعرة، بل وهو الذي شكل الرحم الذي نشأت فيه هذه النصوص المشكلة للديوان، وأشكل حتى فقد ملامحه وهويته، كما فقدت صورة الغلاف الكثير من ملامحها أيضا، فأصبحت باهتة عصية عن الإدراك.
إنها نقطة البداية، أسئلة حول مضمون نصوص الديوان، والقضايا التي تضطلع المبدعة فاطمة بصور بمعالجتها من خلال إصدارها هذا، حيث اختارت الكتابة عن فئة معينة من أفراد المجتمع، وهي فئة المهمشين، المشيئين، الغير عائشين في واقعنا الحياة الإنسانية التي يجب أن يكفلها الوطن لكل فئاته، محطمة في سبيل الوصول إلى بلورة قضيتها كل الطابوهات وكل المجالات الممنوعة، مغيرة على مواطن القبح والبؤس في واقعنا، تسلط عليها معول الهدم رغبة في بناء أفق أكثر نضجا وأكثر غنى وأكثر آدمية، وهي التي أقلقتها مظاهر الفساد الذي عم المجتمع، وبكت دما وهي تنظر لشباب وطنها يضيع وراء حلم عابث، فأعلنت صيحتها ضد كل هذا من خلال قصيدتها "ونااااري" قائلة:
...............
وناري كون على شوفتي
كون على شوفتي
فزمانك وزماني
كون بالجلالة انكحل العنين
وما انشوفش دوك الدراري ...
اللي يرضعو من بزولة الميكة
الكالة ... الشيشة ... والتبويقة
ويكولو جمافو
ونا مالي؟
ونااااري ...
وناري كون كنت ارحى
كون نسحق حس الفساد سحيق
واندريه فالتلت الخالي
وناري على ضبابة
عكرت سما الوقت؟ !
ونااااااااااااااااااااااااري.
كما سجلت الشاعرة إضافة إلى هذا تضامنها مع شخصيات نادرا ما يتعاطف معها المجتمع، بل نجد كل أفراده يدينونها اعتبارا من أنها مارقة من العقيدة، متحللة من كل القوانين والأعراف، إنها المومس التي ترتاد علب الليل رغبة في أن تحسن وضعها المعيشي عندما تخلى عنها الكل مكتفين بالتنديد والوعظ والإرشاد، تقول الشاعرة فاطمة بصور وهي تتحدث عن هذه الفئة في قصيدتها "خيوط مخبلة":
...........................
وزاد مومو عيني
طول شوفتي
حتى وصلت لدسك
اللي القرعة والكاس
قتلو فيها الإحساس
وتلفات لكبة حياتها الراس
ديك اللي همها اتقور الفيتشة
من حجر لحجر
وخَّ ما راغبة فكلاس
وحدة عاقلة ومجنونة
ب شلا هموم ف ذاك الراس
ديك اللي تبات
تكركر
تكركر
ف ذاك الما
اللي وهموها حلو
حتى ف حلقها يمساس
............................
هذا فقط نموذج من بعض القضايا المجتمعية الشائكة التي طرقت أبوابها الأديبة فاطمة بصور، إلى جانب كتابتها عن أطفالنا المشردين، عن ماسحي الأحذية، عن ساكنة دور الصفيح، عن الفقراء جملة وتفصيلا ومعاناتهم التي لا تنتهي مع حياة الكرامة والخروج من دوائر القهر والبؤس والحرمان، إن تبني فاطمة بصور لمعضلات هذه التشكيلات الاجتماعية المقهورة، جعل خيوط الحل تتشابك في رأسها وتتعقد حتى تتعذر عن الحل، انطلاقا من محاولتها طرح السؤال حول مدى عظم الهوة السحيقة الفاصلة بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا داخل المجتمع المغربي، وما السبيل إلى ردم هذه الهوة وتوفير العيش الكريم لكل فئات المجتمع دون استثناء.
وقد توسلت الشاعرة للإجابة عن هذه الأسئلة أولا بذكرياتها التي تداعت في لحظة تفكير خاصة، حيث قالت في قصيدتها "أش اداني":
ملي دليت شوفتي
ف ذاك البير الغارق
ديال ذاك البارح لقريب
اتقرقبت ف ودني
شلا ذكريات
فقاع ذاك البير وحلات
وحلات ...
................................
وعندما لم تسعفها الذكريات في الوصول إلى جواب، لجأت للحلم علها تجد فيه البلسم الشافي، حيث قالت في قصيدة "منامة الأحلام":
ملي هاج عليا ولفي
وفيق العشق ؤ لغرام
احلمت خير وسلام
طوير علام ...
تابع فرك حمام
يمكن اتودر؟
يمكن بحالي ...
هاج عليه ريح غرام؟
اسرحت بشوفتي ف سماه
واتمنيت انكون بجنحين
وانطير احداه ...
................................
وتعذر الحل أيضا رغم سعة دائرة الأحلام والأماني، والواضح أن الجرح غائر بشكل كبير، والإشكالية معاضلة حلها غير متيسر، وتحتاج إلى شيء خارق من أجل تجاوزها، ولذلك استعانت فاطمة بصور بالقوى الخارقة قصد فك (تخبيلت لخيوط)، وفي ذلك تقول في قصيدتها "أش تسالوني":
ملي هاج عليا الشوق
سخرت جن من جنوني
حمر فيهم عينيه
وفات فضولهم لهيه
...........................
أش تسالوني؟
ملي تفدفد لكبيدة
واطلع التنهيدة
يلا كلبي يخرج من جواه
ويدخل جوا كلب
ذاك اللي هواه
..............................
إنها أسئلة حول معضلات اجتماعية بالغة التعقيد، لم تستطع لا الذكريات ولا الأحلام ولا حتى القوى الخارقة أن تجد لها حلا، وكأن الشاعرة تقف يائسة محطمة أمام ثقل المعاناة التي تحيط بالطبقات الشعبية المكدودة.
ويتعدى المشكل جانب المضمون الاجتماعي الذي تتضمنه قصائد الديوان، إلى تناول الشكل التعبيري الذي تتخذه الشاعرة كوسيلة للنظر في هذه القضايا وإيصالها إلى المتلقي، مشركة إياه في هذه المعاناة، إنه الزجل بكل إرهاصاته وتياراته المختلفة، والذي شقت فيه الأديبة فاطمة بصور طريقا استثنائية انطلاقا من استفادتها من تقنيات المونولوك المسرحي التي تتقنها اعتبارا من كونها ممثلة مسرحية، فهي تسعى من هذا الجانب إلى مسرحة الزجل، وذلك عن طريق بعدين أساسين، الأول هو تقمص حقيقي للشخصيات المتحدث عنها داخل النصوص، حيث تفترض الزجالة ضرورة معايشة الوضعية التي تحياها شخوصها، وارتياد الأماكن التي ترتادها، حتى يكون تعبيرها عن مشكل هذه الشخصيات صادقا أمينا، ثم ترى الشاعرة أن النصوص أثناء إلقائها، من الأفضل أن تلقى بطريقة مونولوكية تنقل الإحساس بالمعاناة إلى المستمع، فتجعل منه مشاركا عوض أن يبقى مستهلكا فقط.
إن المبدعة فاطمة بصور عندما تكتب، تتوجه لكل الزجالين برسالة مفادها ضرورة الكتابة عن معاناة الطبقة التي اختاروا أن يتحدثوا بلسانها، وابتعادهم عن الكتابة حول مشاكلهم الشخصية، وعن قضايا تافهة لا تمت للواقع المعيش بصلة، انطلاقا من أن الشعر تعبير عن معاناة حياتية عامة، وعندما يكتب الشاعر، يجب أن يكتب بعناد صادق حتى وإن جره حرفه إلى حبل المشنقة، تقول فاطمة بصور في إحدى قصائدها:
مالك ...؟
مالك يا حروفي ...؟
مالك معانداني؟
اتولي غالباني؟
اتكايسي ...
اتكايسي عليا عفاك
را حساسي ...
بعض الخطرات
كيولي عليا براني !!!
خليني ...
خليني انكون غواص
وأنت الماس
اتكوني الكلب
وأنا الإحساس
وسافري بيا ...
ف خيال لعمر.
إنها دعوة للرجوع لرسالة الشعر الحقيقية، مما يقطع الطريق على المتهافتين والمهرولين من (شعراء الأنابيب) الذين اكتظت بهم الساحة الشعرية دون قيمة تذكر ولا قضية تطرح من طرفهم، إن الزجالة فاطمة بصور تدعو من خلال قصيدتها "حرك معايا لقلم" إلى الرفع من مستوى الكتابة الشعرية الزجلية، وتجنيبها السقوط في الابتذال، رغبة في السعي نحو أفق شعري لا يقل روعة عن الحلم الذي يحمله الشاعر في حناياه، وفي ذلك تقول:
يلا كنت زجال؟
وحساسك بالغمزة يفهم؟
حرك معايا لقلم
حرك معايا لقلم
وخلي مدادو
يسيل دم
خلي حروفو
اتزكي الشوفة تم
وخلي الورقة عزبة
يمكن بياضها يكون كفن؟
......................................
لقد طرحت الفنانة المبدعة فاطمة بصور من خلال إصدارها هذا، الأسئلة الحقيقية والجوهرية التي على كل شاعر أن يطرحها على نفسه قبل مباشرة الكتابة، وهذه الأسئلة تتعلق ب ماذا أكتب؟، وكيف أكتب؟ حتى يصل صوتي واضحا مقبولا للذين أكتب لهم، وكانت جد متوفقة في أسئلتها وفي إصدارها، وفي انتظار إصدار آخر لا يقل جمالا عن "خيوط ... مخبلة فراسي" أقول لك عزيزتي المبدعة دمت متألقة بهية في كل ما يصدر عنك بكل العفوية والجرأة، وحتى وإن كان هناك بياض في بعض قصائدك الشعرية ومباشرة على مستوى الخطاب، فإن ذلك لا ينقص من قيمة أعمالك شيئا، لأن البياض والمباشرة ضروريين أحيانا داخل واقع يصعب استنبات الخطاب الأدبي بكل تعقيداته داخله، انطلاقا من معطيات ليس هذا مجال طرحها، صادق تحياتي ومودتي لهذا الصوت النسوي الجريء، ومزيدا من الإمتاع.
عبد الجليل بدزي
أستاذ باحث في الثقافة الشعبية
والتراث المغربي
...