اللغة العربية لغة الأصالة والبلاغة والإعجاز / الجزء الرابع
أحبائي كادر وأعضاء المنتدى الكرام ..... تحية حب واعتزاز ...
لقد تناولت في المواضيع السابقة عن اللغة العربية بعض الجوانب وبعض الأخطاء الشائعة ، واليوم سأتناول جانبا آخرا من جوانب اللغة وروعتها ... وكما وضحت سابقا ، سأبينها على شكل حلقات لكي لا أطيل عليكم وقد يصيب الملل البعض ....
في هذا الجزء سنتناول موضوع (علامات الترقيم ) في اللغة العربية وأهمية كل منها في ربط المعاني مما يزيد في جمال وبلاغة لغتنا العربية ... وللوصول الى فهم مبسط للموضوع سنراجع القطعة المبينة أدناه عن فصاحة غلام أيام الخليفة هشام بن عبد الملك يدعى (درواس بن حبيب) ، وللأمانة أقول أني سبق أن قرأت هذه القصة عن وفد من أهل مكة وفدوا الى الخليفة عمر بن عبدالعزيز وكان بينهم غلام لم يكمل عامه السادس عشر وحين تقدم ليتكلم قال له الخليفة عمر بن عبدالعزيز: دع من هو أكبر منك سنا ليتكلم .... فأجابه الغلام : يا أمير المؤمنين : إن المرء بأصغريه قلبِهِ ولسانِهِ ، ولو كان الأمر بالعمر لكان من في هذا المجلس من هو أحق منك بالخلافة ، فاستحسن الخليفة جوابه وأذن له بالكلام ... ومهما كانت حقيقة الحدث إن كان لأهل مكة أيام عمر بن عبدالعزيز أم لوفد البادية أيام هشام بن عبدالملك ، فالعبرة في الحكمة التي احتوتها هذه القصة والفائدة بما احتوته من (علامات الترقيم) لدراستها ...
والآن لندرس القطعة الأدبية التالية ... فَصَاحَةُ غُلام ...
حُكِيّ أنّ الباديةَ قَحَطَتْ في أيام هِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ ؛ فَقَدِمَتْ عليه وفودٌ من العربِ ، فهابوا أن يُكَلّموه ، وكان فيهم دُرواسُ بنُ حَبيبٍ ، (( وهو ابنُ ستَّ عشرةَ سنةً )) فوقعتْ عليه عينُ هِشامٍ ، فقال لحاجِبهِ : (( ما شاءَ أحدٌ أن يدخُلَ عليّ إلا دَخَلَ ، حتى الصبيانُ ! )) ؛ فوثبَ دُرواسٌ حتى وقفَ بين يديهِ مَطرِقاً ، فقال : (( يا أميرَ المؤمنينَ استصغرْتَ شأني فأَنِفْتَ من مخاطبتي ؟ إنَّ للكلامِ نشراً وطياً ، وإنهُ لا يُعرفُ ما في طيهِ إلا بنشرهِ ، فإن أذنَ ليّ الأميرُ أن انشُرَهُ نشرتُهُ )) . فأعجبَهُ كلامُهُ وقال : (( انشُرْهُ للهِ درُكَ ! )) فقال : (( يا بنَ الخلفاءِ الأكارمِ ، أصابتنا سنونَ ثلاثٌ : سنةٌ أذابت الشحمَ ، وسنةٌ أكلت اللحمَ ، وسنةٌ دقت العظمَ ، وفي أيديكمُ فُضولٌ ، فإن كانت هذه الفضولُ للهِ ففرقوها على عبادِهِ ، وإن كانت لعبادِ اللهِ ، فعلامَ تحبِسونها عنهم ؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهِم . إن اللهَ يجزي المتصدقينَ )) .
فقال ابنُ عبدِ الملِكِ : (( ما تركَ لنا الغلامُ في واحدةٍ من الثلاثةِ عُذراً )) فأمرَ للبوادي بمئةِ ألفِ درهمٍ .
أحبائي ... من خلال قراءتنا للنص الأدبي أعلاه نلاحظ الأثر الذي يتركه المنطق البديع والكلام الفصيح في نفس السامع ، وهنا تتجلى روعة لغتنا العربية ولا عجب إذ انها لغة القرآن الكريم ، ونلاحظ أن النص شمل جملا وتراكيب لغوية لها معان محددة، تربط بينهما علامات أو إشارات معينة ، ساعدت القارئ على زيادة الفهم لما نقرأ ورسخته ، وهذه العلامات هي كما يلي :
1- الفاصلة (( الفارزة)) وترسم (،) .
وتستعمل الفاصلة في المواضع الآتية :
1-1- الفاصلة بين جملتين قصيرتين متصلتي المعنى ، مثل :
(( فقدمت عليه وفود من العرب ، فهابوا أن يكلموه )) . فنجد أن الفاصلة قد تكون اسمية رسمت بين جملتين متصلتي المعنى لتأدية غرض معين ، كما أنها أفادت عند ظهورها بين الجمل : (( إن للكلام نشرا وطيا ، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره ؛ فإن أذن لي الأمير أن أنشره نشرته ))
1-2- بعد المنادى ، مثل : (( يابن الخلفاء الأكارم ، أصابتنا سنون ثلاث ... )) وكذلك (( يا أمير المؤمنين ، استصغرت شأني فأنفت من مخاطبتي ! )) .
1-3- بين أقسام الشيء ، مثل :
(( أصابتنا سنون ثلاث ، سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم )) .
أو قولنا أحرف العلة ثلاثة : الألف ، والواو ، والياء .
2- الفاصلة المنقوطة : وترسم (( ؛ ))
وتستعمل بين الجمل الطويلة ، التي تكون إحداهما سببا للأخرى ، . كقولنا :
(( نحب لغتنا ونعتز بها غاية الاعتزاز ؛ لأنها لغة القرآن الكريم ؛ ولغة العلوم والفنون والآداب )) .
3- النقطة ، وترسم : (( . ))
وتوضع في نهاية العبارة والجملة عند تمام المعنى ، كما جاء في نهاية النص السابق : (( فأمر للبوادي بمئة ألف درهم )) .
وكذلك في نهاية الجمل : (( فهابوا أن يكلموه )) . و (( فإن أذن لي الأمير أن أنشره نشرته )) .
4- النقطتان الرأسيتان ، وترسمان (( : ))
وتوضعان في المواقع الآتية من الكلام :
4-1- بعد القول ، أي بين القولِ ومقُولِهِ ، كما ورد في النص :
(( فقال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل علي إلا دخل )) .
و (( قال : انشره لله درك ! )) .
و (( فقال : يا أمير المؤمنين ، استصغرت شأني فأنفت من مخاطبتي ! )) فقد وقعت النقطتان بين لفظة (( قال )) والكلام الذي قيل ، أي مقول القول .
4-2- وكذلك توضع بين الشيء وأقسامه ، لغرض الشرح والتفسير مثل : (( أصابتنا سنون ثلاث : سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم. )) فقد فسر السنوات الثلاث وشرحها بعد أن قسمها ثلاثا .
5- علامة الإستفهام، وترسم : ((؟ )) .
وتوضع بعد الجملة الاستفهامية ، مثل : (( يا أمير المؤمنين ، استصغرت شأني فأنفت من مخاطبتي ؟ )) ومثل : (( ... فعلام تحبسونها عنهم ؟ )) . فأداة الاستفهام في المثال الأول ( الهمزة ) وفي المثال الثاني ( ما ) الاستفهامية التي دخل عليها حرف الجر (على) فحذفت ألفها .
6- علامة التعجب أو التأثر ، وترسم (( ! )) .
وتوضع في آخر الجملة التي تعبر عن الإعجاب والاستغراب أو الاستخفاف أو عن عاطفة حادة كالفرح والحزن .
فمثال الإعجاب قول الخليفة لدرواس : (( انشره لله درك ! )) . أو قوله لحاجبه في الاستخفاف : (( ما شاء أحد أن يدخل علي إلا دخل ، حتى الصبيان ! )) فهو يظهر في هذه العبارة استخفافه عليه لصغر سنه ويعني به درواس . ابن السادسة عشرة .
وكذلك قولنا في الإعجاب : (( ما أجملَ الوفاءَ ! )) و (( ياله من بطلٍ مقدامٍ ! )) .
7- علامة التنصيص المزدوجة ، وترسم : (( )) .
ويوضع بينهما كل كلام ينقل بنصه دونما تغير ، من القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف وغيرهما .
كقوله تعالى : (( أقرأ باسم ربك الذي خلق )) .
ومن الحديث الشريف قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أطلب العلم من المهد الى اللحد )) .وفي النص نجد أمثلة كثيرة على ذلك .
8- القوسان أو الهلالان ، ويرسمان : ( )
ويستعملان للإحاطة بكلمة أو تركيب ، ليست من جوهر الكلام ، ولكنها تعين على التوضيح والتفسير ، مثل عبارة : ( وهو ابن ست عشرة سنة ) التي وضحت للقارئ سن درواس ، وفسرت سبب الإعجاب بفصاحته وبراعته في الكلام .
9- هنالك علامات أخرى ، غير ما ورد في النص السابق ، مثل :
- علامة الحذف ، وترسم : ( ... ) .
وتوضع مكان المحذوف من الكلام للدلالة على المحذوف أو لبيان أن الحديث له تتمة . مثل :
1- اجتهد في دراستك وإلا .... .
2- ( إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن ... ) .
10- ومن علامات الترقيم الخط ( الشَرْطَة ) ، ويرسم هكذا : ( - ) ويوضع في المواقع الآتية :
10-1- قبل الجملة المعتَرضَة وبعدها ، مثل :
( الحلمُ – وفقك الله – خلقٌ نبيلٌ ) .
وقولنا : ( يُقسَمُ الإسم – من حيثُ عددُهُ – ثلاثة أقسامٍ : مفرد ومثنى وجمع ) .
ونرى أن جملة : ( وفقك الله ) المحصورة بين خطين ليست من جوهر الكلام فقد وقعت بين المبتدأ وخبره ، ولذا سميت جملة اعتراضية وكذلك الحال بالنسبة لجملة : ( من حيث عدده ) التي فصلت بين نائب الفاعل ومتعلقه .
10-2- في أثناء المحاورة بين اثنين ، للدلالة على تغير المتكلم في المحادثة ، مثل :
- من أنت ؟
- أنا محمد .
- وما عملك ؟
- طالب علم في الصف الثالث المتوسط .
10-3- وتوضع كذلك بين العدد والمعدود ، مثل : مراحل التعليم الأساسية في العراق ، أربعٌ :
1- المرحلة الأبتدائية .
2- المرحلة المتوسطة .
3- المرحلة الاعدادية .
4- المرحلة الجامعية الأولية .
أحبائي آمل أن أكون قد وضحت شيئاً بسيطاً من بحر اللغة العربية وإلى لقاء آخر ان شاء الله لتوضيح جوانب أخرى من هذا البحر الزاخر ...
صباح الجميلي