لقد طلبت مني ابنتي العزيزة ، الشاعرة المبدعة ذات الإحساس المرهف والمشاعر الرقيقة – يسرى محمود – أن ألخص لها بحور الشعر وكيفية معرفة الصالح منه واتباعه وتمييز الطالح منه لاجتنابه وقد وعدتها خيرا ... ولكني قرات لأخي الأستاذ وليد اللهيبي في احدى مساهماته تعريفه لبحور الشعر ووجدت فيها دليلا كاف ... والمثل يقول - السعيد من اكتفى بغيره - .. ولكن ابنتي يسرى كانت ترغب بالمزيد من هذا العلم والفن وذكرتني بوعدي لها ، فتوكلت على الله واخذت اراجع ما تضمه مكتبتي المتواضعة من مراجع حول علم العروض وبحور الشعر وهو موضوع واسع وله تفرعات كثيرة .
وسأحاول ان أبينه بأسلوب مبسط يتضمن الجوانب الأساسية من الأصول والقروع ، وسأبينه على حلقات بهدف الإستيعاب والفهم وعدم طرح المعلومات دفعة واحدة قد يمل منها القارئ وتختلط عليه المعلومات ..
وكلي أمل أن تستمتعوا بهذه الحلقات وتتم الفائدة منها .. مع تحياتي وحبي لكم جميعا ...
العروض وبحور الشعر ... تمهيد ...
ان الشعر عند العرب حياة وهو ديوانهم الذي فيه يلتقون ... وتراهم يقولون الكلام بينهم شعرا وبطلاقة ، ولم يكن هناك لحنا ( خطأ في النحو والإعراب ) ولم يدخل اللحن كلام العرب إلا بعد اختلاطهم بالشعوب والأمم الأخرى . وأذكر فيما قرأت أن أبو الأسود الدؤلي سألته ابنته يوما وقالت له : يا ابتاه ، ما أجملُ السماء .. فقال لها : نجومُها ، فقالت يا أبتاه إنني أتعجب ، فقال لها: قولي ، ما أجملَ السماء ..
فذهب الى الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب (رض) وقال له يا أمير المؤمنيين لقد دخل اللحن بيتي وأخبره بما دار بينه وبين ابنته فقال له الإمام علي (رض) لنضع الأصول والضوابط ولننحو هذا النحو ، وسمي بعد ذلك علم النحو .
وكان ان اختلط أمر على النحويين في مسألة لغوية يذهبون الى البادية ويسألون من يلاقونه ، وفي يوم اختلط عليهم كيف يثنون كلمة عصا ؟ هل يقولون عصاتان أم ماذا ، فذهبوا الى البادية والتقوا باعرابي فسأله احدهم وهو يحمل عصاته يا أخ العرب ما هذه ؟ فاجابه : عصا ، ثم اخذ عصى صاحبه وحملهما بيده وقال وما هذين ؟ فاجاب الأعرابي فورا : عصاوان . فاعتمدوها في أصول اللغة ...
ومن يستمر على قراءة القرآن الكريم وينتبه للفظ فيه ، تجده يستشعر الخطأ في كلام الناس عندما يسمعه ...
وكان العرب يعلمون أولادهم منذذ الصغر أصول الشعر ولم تكن للبحور مسميات ولكنهم يعتمدون على الفطرة والسليقة ، ولا تقبل آذانهم اللحن أو الخلل في وزن الشعر ... ويحكى أن أحدهم مر بأعرابي وأمامه صبي وهو يقول له قل : نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم نعم ، والصبي يردد بعده ...
فسأله ماذا تعمل : فأجاب أعلمه التنعيم ، أصول الشعر ...
وكان العرب ، فرسانهم وشعرائهم ، يتبارون بالشعر ويحتكمون من منهم يستحق أن تعلق قصيدته على ستائر الكعبة ، وقد علقت سبع قصائد سميت بالمعلقات ومنهم من يقول عشرة ...
لقد برزت الحاجة لتثبيت أصول هذا العلم ، وأول من وضع أصوله هو ، الخليل بن أحمد الفراهيدي ، رحمه الله ، ويقال انه كان مارا يوما في سوق للصفارين وسمع دقات مطارقهم وترنيمتها وما لها من رتابة وانسجام فالهمه الله وضع أصول الشعر وبحوره وسمي هذا العلم بالعروض .
والعروض كلمة تطلق على الطريق الصعبة ، وعلى الخشبة المعترضة وسط بيت الشعر ، وعلى مكة المكرمة لاعتراضها وسط البلاد. وهو العلم الذي يعرف بواسطته صحيح أوزان الشعر وهو الميزان الذي يوزن به الشعر ...
واضع العروض هو ، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو الأزدي الفراهيدي ، نسبة الى الفراهيد ، وهي بطن من الأزد، وكان إماما في علم النحو ، ولد سنة 100 للهجرة ومات بالبصرة سنة 170 للهجرة ، وعاش 74 سنة.
إن الكثير من الشعراء المبدعين يقرضون الشعر دون المعرفة بعلم العروض بل يعتمدون على الأذن الموسيقية ، ولكن ذلك لا يفقد العروض أهميته بل هو أمر مهم ولازم للشاعر المرهف الحس، ليكسبه المقدرة على التمييز بين الأوزان المتقاربة مما لا تميزه الأذن الموسيقية ، ويساعده على التنويع والنظم على البحور المختلفة ...
وأذكر يوم اتصل بي أخ عزيز وهو من الشعراء المعروفين ، ولشعره حلاوة ورقة ، وقال لي بلهجته المحلية : يا أبا أحمد نظمت قصيدة ولكني أرى ان في احد البيوت ( طسة ) ويقصد بها عدم انسجام بين صدر البيت وعجزه ، ولما قرأ علي البيت لاحظت انه خرج من بحر الى بحر آخر قريب منه بسبب ما فيه من زحافات وعلل ( وهذا ما سنأتي عليه لاحقا ) فقلت له : نعم يا أخي فانك خرجت ن البحر الفلاني الى البحر الفلاني وعليك ان تغير هذه الكلمة بغيرها وأعطيته المرادف لها واستقام الوزن ..
وخلاصة القول أن دارسي الشعر واللغويين هم أشد حاجة الى علم العروض من الشعراء أنفسهم ، فبه يشعرون بجمال الوزن وانسجام الموسيقى في الشعر العربي ، وبه يقدرون على الحكم فيما صح وزنه وما اختل ، ويستطيعون قراءة الشعر بصورة صحيحة ...
وسنأتي ان شاء الله على تفاصيل ذلك في االحلقات القادمة ..
صباح الجميلي[/size]