دخل حسن بيته متحيرا من هذه الدعوة المفاجئة ولاحظت والدته علامات الحيرة بادية على وجهه ، دخل حسن واغتسل بالماء وغير ملابسه ثم جلس مع زوجته يغازلها ويتغزل بها وكأنه لم يراها منذ فترة زمنية طويلة ، ابتسمت هي خجلا مما سمعت وأردفت قائلة أني أخشى عليك من بنات بغداد أذا سمعنّ كلامك الحلو الجميل أخشى أن يسرقنك مني ، ضحك بملئ فمه وقال لها وهل ستحلى النساء بعيني من بعدك اطمئني فأنتِ روحي وحياتي وحبي وعشقي 0
خرج من كوخه ليواجه والدته التي كانت تنتظره في باحة البيت ، ماذا بك يا ولدي أراك متحيرا عند دخولك البيت ، نعم يا والدتي لقد وجهت لي دعوة للعشاء فاستغربت من هذه الدعوة ، لماذا الاستغراب يا ولدي ، لأنها وجهت لي فقط دون غيري من الرجال العاملين ، لأنك أنت جديد هنا يا ولدي ، وطلبوا مني أن أأتي وحدي وان لا يرافقني احد لان ظروفهم المادية لا تسمح بالمزيد 0
استغربت والدته من هذا الطلب وقالت من وجه لك الدعوة يا ولدي ، أبا حيدر زوج المرأة التي كانت هنا بالأمس 0
عندها حذرته من كيد هذه المرأة وطلبت منه الحذر وان يتصرف بموجب الأخلاق كما نشأ عليها في الهور في بيت والده ، اطمئني يا والدتي أنا عند حسن ضنك بيّ 0
وعند الغروب جهز حسن نفسه لتلبية الدعوة وارتدى أفضل الملابس الموجودة عنده 0
وفي بيت أبو حيدر جهزت زوجته الطعام الذي يليق بالضيف الحبيب دجاج مشوي بالتنور والرز والمرق والخبز الحار ، وقد رتبت مكان الجلوس ووضعت الوسائد لكي يأخذ الضيف راحته بالجلوس ثم دخلت إلى حيث مكان نومها وغيرت ملابسها وتزينت ووضعت العطر وكأنها تستقبل زوجها لا ضيفهم 0
وصل حسن إلى بيت أبا حيدر ونادَ عليه بصوت منخفض ، خرج أليه أبا حيدر والابتسامة تعلو وجهه وبعد تبادل التحية طلب منه الدخول حينها خرجت أم حيدر بكامل زينتها مبتسمة ، طأطئ حسن رأسه إلى الأرض وهو يلقي عليها بالتحية وحين وصلا مكان الجلوس المحدد جلسا يتحدثان وأعرب أبا حيدر عن شكره لحسن لقبوله الدعوة 0
دخلت أم حيدر وهي تحمل سفرة الطعام وقد فرشتها أمامهما ثم جلبت أواني الطعام وطلبت من الضيف الحبيب والزوج المغلوب على أمره أن يتناولا الطعام وخرجت إلى مكان غير بعيد كي تسمع صوت زوجها أذا ما احتاج إلى أي شيء ، أتموا الطعام ، دخلت أم حيدر ورفعت الأواني وسفرة الطعام ثم جلبت معدات الشاي ( القوري والصحون الصغيرة والملاعق الصغيرة والاستكانات ) وجلست هذه المرة بقربهم وهي تملئ الأقداح بالشاي وتقدمها لهم وإعادة الكرة ثانية لأنه جرت العادة أن يشرب الشاي قدح بعد آخر ولمرتين متتاليتين وما أن أتموا احتساء الشاي وإذا بصوت ينادي أبو حيدر أبو حيدر ، خرج أليه أبو حيدر مسرعا لينظر من المنادي واستغلت أم حيدر هذه الفرصة وكأن القدر قد ساقها أليها لتحقق هدفها من حسن قفزت وجلست إلى جواره مسرعة ووضعت يدها على كتفه باحتضان واضح ثم حاولت أن تقبله من شفتيه العذبتين استهجن حسن هذا التصرف ودفعها إلى الوراء وهو ينهض من مجلسه ويقول أنا اخاف الله يا امرأة هذا أولا وأصبح بيننا ملح وزاد هذا ثانيا وأنا لا أخون من أأتمن عرضه عندي أبدا ، وحين سمعت صوت أقدام زوجها نهضت مسرعة وهي تحمل صينية الشاي وأدواته وهمت بالخروج في حين جلس حسن بمكانه غير راضٍ من تصرفها 0
التقت بزوجها عند الباب وهي تحمل بيديها الأدوات وذهبت إلى المطبخ ووضعت ما بيدها هناك وهي تلوم نفسها أي شيء بيّ لا يعجب حسن جمال وطول ورشاقة ونهدين بارزين وساقين ممتلئتين يسيل لعاب الرجال للحصول عليها ؟ 0 ألا يشعر هذا الرجل بحبي له ؟ ألا يعي حقيقة واحدة أن من مثلي صعبة المنال فقد قدمت له جسدي ومشاعري بدافع حبي له ؟0
تحدث حسن وأبا حيدر بأمور العمل وصعوبة الحياة هنا في الميزرة وهما يتحدثان وإذا بها تدخل عليهم وهي تحمل الماء البارد وحين كان زوجها منشغلا بالحديث مع حسن غمزت أليه بطرف عينها عندها نهض حسن مستأذنا بالخروج وتم توديعه من قبل أبا حيدر 0
استمر حسن بالسير في الطريق الترابي في حين عاتب أبا حيدر أم حيدر على مظهرها وزينتها هذه فقالت له أردت أن اظهر بمظهر لائق يليق بزوجي أمام ضيفه ، تفهم أبا حيدر جوابها ثم أثنى عليها شاكرا جهدها في أعداد الطعام 0
وصل حسن داره منزعجا وحين دخل توجه إلى والدته التي كانت تنتظر على أحر من الجمر لتعرف حقيقة ما سيحصل 0
ــ حسن : لقد حصل ما توقعنا
ــ والدته : كيف يا ولدي
ــ حسن : لقد حاولت إغرائي ورفضت
ــ والدته : أنها امرأة أفعى لعوب
وقص حسن لوالدته كل الذي حصل ، فشكرته والدته لأنه لم يتبع الأفعى ولم ينقاد لأهواء الشيطان ، ثم حذرته من الذهاب هناك مرة أخرى وطلبت منه أن يجعل الأمر سرا ولا يفضح المرأة ، فأوعد والدته بذلك 0
وفي الصباح الباكر تهيئ الرجال للذهاب إلى العمل وفي التوقيت المحدد بدئوا يتجمعون 0
وهذه المرة تأتيهم السيارة إلى الميزرة لا إلى المسطر ، خرج حسن من داره وسلك الطريق الترابي الوحيد ليصله إلى مكان التجمع وهذا الطريق يمر من أمام دار أبو حيدر ، وحين خرج أبا حيدر من داره كانت زوجته تودعه عند الباب الخارجي وكلها أمل أن تشاهد حسن وهو يمر من أمامهم وأثناء خروجه التقى صدفة مع حسن وتبادلا التحية وسارا في الطريق وإثناء ذلك كانت أم حيدر ترصد حسن وتنظر أليه من خلف السور بلهفة وشعرت بارتياح شديد ، مشيا وهما يبتعدان بسيرهما عنها وكأن نبوءتها قد تحققت برويته وعاودها الشيطان يوسوس لها وكيف ستسقط حسن بحبائلها ، امرأة لم تحترم البيت التي تسكن فيه والزوج الذي يحتضنها بشريعة الله ولم تعطي للأخلاق قيمتها امرأة مشت مع عواطفها وغرائزها وشهوتها متناسية قيم الشرف والعفة وقيم الإسلام 0
أن من تبيع جسدها لرجل غريب هو غير زوجها لأول مرة ستبيعه مرات عديدة باسم الحب للآخرين ، الم تحسب هذه المرأة مساوئ هذا العمل ؟ الم تخشى الفضيحة يوما ؟ الم تعي حقيقة واحدة أن من يسلك هذا الطريق مصيره القتل غسلا للعار ؟ 0 وهذا عرف سائد عند عشائرنا 0
أسئلة كثيرة وعلامات استفهام كبيرة اكبر من نوازعها هي محكومة بنزوتها والشيطان يوسوس لها ويزين لها الأفعال وهي معجبة بجمالها وتناسق جسدها وتعرف أن الرجال يفضلون هكذا مواصفات ونست قيم الشرف بل وتركت تلك القيم جانبا لان المهم عندها هو المتعة الجنسية وإشباع رغباتها العاطفية بأي ثمن كان وكأنها لم ترتوي من زوجها ولم تحسب حسابا غير ذلك من نتائج 0
( 21 )
بدأت والدة حسن تسأل عن احوال الناس هنا في الميزرة اثناء ذهابها مع الجيران لملئ الماء وتحاول ان تعرف اخلاقيات الناس بشكل غير مباشر لعلها تجد تفسيرا لما يواجه حسن من هذه المرأة وكان حديث النسوة معها حديثا عاما لا يشفي لها غليل ، كل النسوة يمتدحنّ جميع من يسكن الميزرة ويشدنّ بالرجال ونخوتهم وبالنساء وعفتهنّ ، الا امرأة واحدة فضلت الصمت وكأنها غير مقتنعة بما يقال وكانت هذه المرأة هي زوجة الحاج محمد 0
لاحظت والدة حسن ذلك واضمرت بداخلها اسئلة كثيرة لزوجةالحاج محمد ستطرحها عليه على انفراد ، واصلنّ السير باتجاه مكان الماء وحين وصلنّ ملئنّ الاواني وغادرنّ المكان والاحاديث لا تنقطع بينهنّ ، دخلنّ الميزرة ودخلت كل واحدة منهنّ الى بيتها تفرغ الماء بالخزان المعدني 0
توجهة والدة حسن الى دار الحاج محمد ، ما الذي جاء بك مسرعة ، صمتك هو الذي جعلني أجيء اليك يا قريبتي ، أي صمت هذا لقد شاركتكم الحديث ، اعني صمتك حين سألت عن اهل الميزرة وساكنيها 0
صمتت قليلا وقالت انتِ تسألين النساء علنا عن الجميع وقد أجابوك عن تساؤلك 0
ــ والدة حسن : لقد شعرت بأن عندك جواب مغاير
ــ زوجة محمد : ليس عندي غير الذي قيل
ــ والدة حسن : انتِ اقربائي فاصدقيني القول
ــ زوجة محمد : كل الذي قيل صحيح ولكن هل تسألين عن شخص محدد
قالت والدة حسن ان الموضوع الذي اود معرفته لم يأتي من فراغ وانما لا اريد ان اضع سوء الضن في مقدمة علاقاتي بالجيران لقد زارتنا ام حيدر قبل يومين من اجل التعارف هكذا قالت ولم ارتاح لسلوكها فاردت ان اعرف حقيقة ذلك ، لا تدعيها تتردد عليكم كثيرا ، لماذا ، لا شيء ، كيف ، هذه المرأة منفتحة اكثر من اللازم وتجامل الناس بسهولة ، الم تسمعوا عنها شيء يضر ، لا لم نسمع سوى بعض الهمس دون دليل ، وما هذا الهمس ، قلت لك مجاملتها للاخرين دون قيد ، الا يوجد شيء غير ذلك ، لا لن نسمع بغيره ونحن نعيش هنا في دور غير كثيرة 0
اطمأنت والدة حسن واعتبرت الذي حصل حين جائتهم الى البيت هو من هذا الباب اما ما حصل لولدها في بيت ابو حيدر فيدخل في باب آخر عليهم الحذر منه والابتعاد عنه قدر المستطاع حتى يفتضح امر المرأة من غيرهم لان الشمس لا يحجبها الغربال غادرت دار الحاج محمد ودخلت دارها وانجزت مع زوجة ابنها وابنتها اعمال المنزل ، بدأت زوجة حسن تداعبها الافكار في خلوتها لماذا لا يكون لنا بيت مثل بيوت بغداد ثم اخذتها الافكار بعيدا الى حيث حسن وعمله وبنات بغداد التي يراهنّ في الطريق وتسأل نفسها الم يؤثرنّ عليه وينقاد اليهنّ ثم تستدرك ان اخلاق حسن لا تسمح له بذلك لكنها في نفس الوقت قررت ان تظهر اليوم بصورة جميلة عند قدوم زوجها من العمل واصرت على التجديد في حياتها في ملبسها وماكياجها ودلعها لكي تملئ عين زوجها ولكي لا تزيغ عينيه الى غيرها قرار صائب من امرأة تحرص على زوجها وتسعى لرضاه دائما 0
وعند العصر وقبيل وصول زوجها استعدت لما خططت له فارتدت اجمل الثياب واهتمت بماكياجها وعطرها وسرحت شعرها وهي تنتظر قدومه 0
وهناك في العمل كان الرجال يؤدون اعمالهم بهمة عالية وفي وقت انتهاء العمل توجهوا الى الميزرة كان حسن يتعمد السير مع الرجال بعيدا عن ابو حيدر قليلا وهم منشغلين بالحديث رغم علامات التعب الظاهرة عليهم وفي الطريق المؤدي الى دورهم صار لزاما على حسن ان يسير مع ابا حيدر حتى وصل صاحبه الى داره وكانت ام حيدر تنتظر عودته وحين دخل ابا حيدر الى داره شاهدت هي حسن وهذا ما كانت تريد في حين ان حسن اسرع بخطاه باتجاه داره وهي لا تزال تسترق النظر اليه 0
وصل حسن داره وسره ما رأى من زوجته وامام الجميع قال اليوم تبدين كالقمر ، وهل يستحق زوجي غير ذلك 0
ضحك الجميع ، تقدم اليها وامسك بيدها وادخلها الى مضجع الزوجية وحين اغلق الباب قبلها من شفتيها وامتدت يده تداعب شعرها 0
دفعته الى الخلف قليلا وقالت ادخل الحمام واغتسل وفي الليل لك مني ماتريد 0
خرج حاملا ملابسه ودخل الحمام واغتسل وحين خرج لاحظت والدته علامات التوجس والحيرة على ملامح وجهه ، ماذا بك يا ولدي ، أغير الذي تعرفيه ، هل أعيدت الكرة مرة أخرى ، بلى وقد أسرعت بالمسير كي لا أرى حركاتها حيث كانت نظراتها تتودد ورموشها تتحرك بإشارات توحي بالغزل 0
بعد أن تناول حسن طعام العشاء جلس هذا اليوم مع أفراد أسرته والدته وشقيقته وزوجته وأطفاله جلس معهم جلسة سمر يحدثهم عما يراه في بغداد وشوارعها من حركة الناس وأزيائهم وعن محلات بغداد وأسواقها ، اليوم شاهدت شيْ لم أراه سابقا ، ما هو هذا الشيء ، رأيت بناية كبيرة جميلة تقع على نهر دجلة في منطقة الكسرة هذه البناية تحيطها الحدائق من كل جانب ويقف على أبوابها رجال بملابس عسكرية زاهية وخوذهم يعتلها الريش استغربت ذلك وتساءلت فأجابني احد العمال معنا وهو من أهل بغداد هذا هو البلاط الملكي ، ماذا يعني هذا ، انه مقر الحكومة ومن هنا يدير الملك حكم العراق حيث العرش الملكي ودواوينه 0
وقد لفت نظري رتل كبير من الخيول يعتلي صهواتها رجال بملابس عسكرية خاصة يسير بنسق رائع ورشاقة واضحة خرجت من منطقة الكسرة مخترقة شارع المغرب ودخلت في منطقة نجيب باشا ، ما هذا يا صاحبي أنها كتيبة خيالة البلاط الملكي وهذه الخيول هي خيول عربية أصيلة تخرج هذه الكتيبة صباح كل يوم لتسير بالشوارع المحيطة بالبلاط أو القريبة منه وهذا جزء من التدريب لهؤلاء الفرسان 0
أن من يتجول في بغداد يصيبه الذهول مما يرى والحياة هنا تختلف عن حياتنا هناك حيث البساطة في كل شيْ أما هنا فالتعقيد واضح بكل شيْ أو بالأحرى نحن نرى ذلك هكذا لأننا لم نألف حياة المدينة بعد ، قالت زوجته لقد شوقتنا لرؤية شوارع بغداد ، وأردفت أخته ( أي والله حسن شوقتنا انشوفهه ) 0 ضحك حسن وقال للجميع سأريكم بغداد وشوارعها واسواقها قريبا 0 وبعد انتهاء سهرته مع عائلته توجه مع زوجته الى مضجع الزوجية وهناك القى بجسده بجانبها وتشابكت ايديهما وشم عطرها عن قرب ثم امطرها بوابل من القبل الملتهبة وهو يخلع عنها كل ساترة والتصقت الاجساد مع بعضها حتى ارتعشت اوصالهما من الشهوة والمتعة وذابا شوقا وحبا وما ان اتما ذلك هدأت عاصفة الرغبة عندهما وبدءا الحديث همسا متعبين وافرازات العرق تخرج من جسديها 0
وفي صباح اليوم الثاني خرج حسن مفعما بالحيوية والنشاط كعادته وهو يتوجه إلى عمله وحين ركب السيارة التي تنقلهم إلى مكان العمل مع باقي العمال بدئوا الحديث والمزاح فيما بينهم وما أن دخلت السيارة شارع المغرب من جهة الوزيرية بحيث اصبحت الكسرة في جهة اليسار ومنطقة نجيب باشا في جهة اليمين انتبه حسن الى ذلك وهو ينظر باتجاه منطقة الكسرة ببيوتها البسيطة وسوقها الشعبي وكم تمنى ان يمتلك بيتا فيها يأوي فيه عائلته كي ينهي متاعب السكن في الميزرة 0
وحين استدار سائق السيارة إلى جانب اليمين متجها إلى منطقة الاعظمية وحين وصلوا الى ساحة عنتر بن شداد شاهد حسن بناية كبيرة مطلة على الساحة فدفعه فضوله ان يعرف ما هي هذه البناية
ــ حسن : ما هذه البناية يا صاحبي ( وهو يوجه كلامه إلى زميله العامل من أهل بغداد )
ــ العامل : هذا هو النادي الاولمبي
ــ حسن : ماذا يعني النادي
ــ العامل : مكان تمارس فيه الرياضة وكان سابقا أيام الانكليز يسمى نادي الكولف لانهم كانوا يلعبون الكولف بحدائقه اما اليوم فيسمى النادي الاولمبي وفيه تمارس انواع مختلفة من الرياضة كالسباحة ورفع الاثقال وبناء الاجسام وغيرها 0
أومأ حسن برأسه مكتفيا بالجواب وهو يحدث نفسه عجبا لأهل بغداد لديهم ملاعب خاصة وخدمات متوفرة ، كان حسن طيلة فترة العمل لهذا اليوم يفكر كيف يمكنه أن يمتلك بيتا في الكسرة وقاده عقله إلى أن يجمع المال كي يتمكن من شراء بيتا صغيرا فيها 0
وحين أتموا العمل وتوجهوا إلى بيوتهم سأل حسن زميله العامل أين تقضون أيام العطلة يا صاحبي ، أجابه في يوم الجمعة عند الصباح نزور الأقرباء وبعد الظهيرة نذهب إلى السينما مع الأصدقاء ، السينما 00 قالها حسن بتعجب ، نعم السينما حيث نشاهد احد الأفلام ، ماذا تعني هاتين السينما والأفلام يا صاحبي ، ضحك العامل بلطف وقال لزميله حسن السينما بناية كبيرة فيها كراسي على شكل مدرجات وعلى الحائط الأمامي ستارة كبيرة بيضاء يعرض عليها الفلم من احد أجهزة العرض الكهربائية أما الفلم يا صاحبي فهو شريط سينمائي سجل علي إحداث القصة حيث يقوم الرجال والنساء بأداء أدوارهم وهو يعرض بالصورة والصوت 0
حدث حسن نفسه عجبا لأهل بغداد لقد وفروا لأنفسهم وسائل الراحة والترفيه 0
وما أن وصل حسن إلى بيته المتواضع مارا من أمام دار أبو حيدر شاهد أم حيدر وهي تتشوق لرؤياه وعينيها ترقبان خطواته مرّ من أمام دارهم وكأنه لم يراها مما جعلها تصاب بانفعال كبير وهي تسأل نفسها لِمَ يتجاهلني حسن هكذا 0
دخل حسن بيته والحيرة تملئ كيانه ألا تستحي هذه المرأة من نفسها ؟ ألا تستحي من زوجها ؟ ألا تحرص على شرفها ؟ 0
أسئلة كثيرة لم يجد لها جواب غير أن هذه المرأة قد سلكت طريقا يخالف الدين وقيمه وتحاسب عليه الأعراف العشائرية 0
تناول طعامه بعد أن اغتسل وغير ملابسه وتعرض إلى وابل من الأسئلة من العائلة يودون أن يعرفوا ما شاهد حسن في المدينة ، بدأ حسن يحدثهم عن النادي الاولمبي وعن السينما وما يعرض فيها وابلغهم أن أهل بغداد قد هيئوا الأجواء لراحتهم وقضاء وقت فراغهم ثم حدثهم عن منطقة الكسرة ببيوتها البسيطة وعن منطقة نجيب باشا التي يفصلها عن الكسرة شارع المغرب ببيوتها الكبيرة وقصورها الواسعة وحدائقها العامرة بالزهور والأشجار 0
ثم اختلت به والدته وكان ولده حسين على مقربة منهما يسمع ما يدور من حديث بينهما قالت والدته لم تعجبني ملامح وجهك وانت تدخل الينا ما بك ياولدي ، أ فغيرها يا امي ، من ام حيدر ، نعم يا امي ، الم ترتدع هذه المرأة بعد ، لقد تجاوزتها وكأني لم اراها وسوف اتجاهلها دائما لا عليكِ يا امي سوف تندم على ما فعلت 0
أنها امرأة لا تحفظ غيبة الرجل ولا شرف العائلة وستفضح ولو بعد حين 0
وهما يتحدثان وإذا بأم حيدر تأتي إليهم في دارهم وتسلم على العائلة فما كان من حسن ألا أن يذهب إلى زوجته تاركا المكان في حين عبس وجه أم حسن وهي تنظر إلى أم حيدر وقد ارتبكت أم حيدر وهي تقول قد جئت كي أراكم واطمئن عليكم ، أرجو أن لا تدخلي دارنا بعد اليوم وعليكِ أن تتركي حركاتك مع حسن ، تغير وجه أم حيدر ولملمت كلماتها بارتباك واضح مع السلامة وهي تخرج مسرعة من دارهم 0
وبدأت تلوم نفسها وكيف ارتمت بحضنه سابقا وانتقدت نفسها كثيرا ثم بدأت تلوم حسن لأنه ابلغ والدته بذلك 0
( 22 )
وفي الليل حيث أرخى سدوله وخيم الظلام على صرائف الميزرة وساد الصمت فيها فلم تسمع الا اصوات نباح الكلاب فيها ولم يبقى من ضوء يشرق فيها الا ضوء القمر المتكامل وسمائها تزينها النجوم اللامعة في كبد السماء في هذا الجو الساحر القى حسن بجسده على فراش الزوجية وبجانبه زوجته التي عطرت نفسها بالعطور التي يحبها زوجها ، نظر اليها حسن مبتسما لست ادري اي القمرين ينير الميزرة القمر المرتفع في السماء ام القمر الذي بجانبي ، فرحت زوجته كثيرا واحتضنته وقبلته بشوق ولهفة ثم ابتعدت عن شفتيه قليلا وهي تقول ليس لي غيرك ايها الحبيب , فأجابها وهل لي غيرك زوجة ايتها الغالية 0
اليوم أريد أن أحدثك بموضوع شغل لي البال وجعلني أفكر به كثيرا ، قل ما عندك يا زوجي كلي اذان صاغية ، اليوم شاهدت البيوت في منطقة الكسرة وقررت ان اشتري بيتا هناك ، ومن اين لك بالمال يا حسن ، هذا هو اساس الموضوع الذي اريد ان اكلمك به علينا ان نقتصد بالمصاريف ونقلل من الفقات ونجمع المال المطلوب من اجور عملي ونضيف عليه ما بحوزتي من مبالغ التي جلبتها معي حين كنا بالهور واذا احتجنا بعض المال سأظطر لبيع ما تملكين من قطع ذهبية فما رأيك يا زوجتي ، او تسألني يا زوجي انا وما املك رهن يديك تصرف بما يحقق لنا الفائدة لكن يبقى السؤال كم سعر البيت في الكسرة وهل نستطيع تدبر الامر ، انا غير مستعجل في الشراء اولا نجمع المال ثم لي صديق من بغداد وهو عامل معنا واكيد هو يعرف تفاصيل اكثر منا هدفي في الوقت الحاضر هو تقليل الانفاق ، عليك ان تخبر والدتك بذلك ، نعم غدا ان شاء الله 0
ومن اجل أن تمازح زوجها قالت له انك تسعى لشراء بيتا لكي تتزوج من امرأة بغدادية يا حسن ، وهل تملئ عيني وتستوعب عواطفي امرأة غيرك ومن تلك المرأة التي تستطيع أن تعزف على أوتار مشاعري مثل عزفك يا سيدة الهور ايتها الاصيلة اصالة هذا الشعب والعريقة عراقة هذا العراق انتِ مجموعة من النساء في امرأة وامرأة ليس ككل النساء فكيف افرط بكِ ، لقد اخجلتني والله فما انا الا زوجتك وخادمتك وام ابنك التي تسعى لرضاك وتطمع بحبك وتتمنى ان تموت بين ذراعيك كنت امازحك لا غير حين قلت لك لكي تتزوج امرأة بغدادية ، اعرف ذلك يا زوجتي لكني اليوم اشعر بعاطفة جياشة ومشاعر تفوق الوصف اردت ان افرغها غزلا بكِ فلا احد يستحق ذلك غيرك 0
ضحكا بصوت عالٍ فكسروا بذلك حاجز الصمت الذي يسود الميزرة وسمعت بقية العائلة ضحكاتهما عندها اطمأنت والدته وايقنت ان زواجهما سيدوم ولم تؤثر عليه الزوابع النسوية هنا او هناك 0
نام الجميع مرتاحي الخاطر لا يشغلهم شيْ أبدا وعند الصباح الباكر نهض حسن وتوجه إلى حيث يجب أن يكون بين زملاء العمل وهناك حدث زميله بموضوع شراء البيت ، حسنا تفعل ولكن هل لديك المال الكافي ، غير متوفر ألان لكني اخطط للمستقبل ، اعلم أن سعر البيوت في الكسرة مناسب جدا لأنها دور عرصة اي ان الارض بأسم شخص ومؤجرة والبناء بأسم شخص اخر ، كيف ذلك يا صاحبي ، ان الارض ملك صرف مسجلة بالطابو لعائلة الساجي وهي عائلة معروفة في المنطقة وقد قاموا بتأجير قسم من هذه الارض بأيجار سنوي وقسمت قطع الارض بمساحات صغيرة ثم قام الناس ببناء البيوت عليها فأصبح البناء لصاحب البيت والارض بأسم صاحبها من بيت الساجي وهذه تسمى عرصة ، لقد فهمت ذلك شكرا لك يا صاحبي 0
عاد إلى بيته بعد انتهاء العمل وحين دخل إلى الميزرة بصحبة زملائه من العمال بضمنهم ابا حيدر وهم يسيرون بشارعها الترابي التي تنتشر فيه برك الماء والاطيان وقد لفت نظره حين وصل الى بيت ابو حيدر عدم وجود زوجته كما كانت تفعل سابقا ففرح بذلك لانه تخلص من الاحراج والسير السريع من امام بيتهم 0
دخل بيته وهو مستغرب من هذه الحالة فقالت والدته ماذا بك يا حسن ، لم تكن موجودة اليوم يا أمي ، ضحكت والدته وهي تقول لقد جاء بالنتيجة حديثي معها ، وهل حادثتيها يا أمي 0
قصت عليه ما حصل يوم أمس فأستبشر خيرا واطمئن كثيرا 0
ــ حسن : أريد أن أحدثك بموضوع يا أمي
ــ والدته : امرأة أخرى يا حسن
ــ حسن : لا لكني اسعى لشراء بيت في منطقة الكسرة
ــ والدته : ومن اين لك بالمال
ليس ألان يا والدتي ، أنا اخطط للمستقبل وقد عرفت تفاصيل البيوت في الكسرة وهي رخيصة جدا كونها عرصة ، اذا نويت الشراء مستقبلا فاني سأساعدك يا ولدي لاني جمعت بعض المال ليوم نحتاج اليه ، فرح حسن كثيرا بذلك وابلغ والدته بأن زوجته تبرعت بذهبها من اجل ذلك ايضا ، نعم يا ولدي نحن عائلة واحدة تعمل بما يرضي الله فلا تعجب 0
وحين التقى زميله العامل مرة ثانية في أثناء العمل ابلغه رغبته بمشاهدة السينما وطلب منه أن يأخذه إلى هناك ليعرف حقيقتها أثناء المشاهدة ، ابلغه صديقه العامل حسنا يا حسن سنأخذك معنا في يوم الجمعة فهيئ نفسك يا رجل واعلم أن هذه المرة ستكون أنت بضيافتنا وسأعرفك على أصدقائي 0
فرح حسن حين سمع موقف صديقه منه وأعرب عن شكره له وبدأ حسن برحلة من الصبر وحساب الوقت وعد الأيام اليوم هو الثلاثاء فمتى ستأتي يا يوم الجمعة وهل ستنقضي أيامي هذه سريعة ، أصبحت الدقائق ثقالا على حسن وأصبح اليوم عنده يعادل سنة كاملة وهو ينتظر الجمعة بفارغ الصبر 0
وحين انتهى العمل وعاد راجعا مع زملائه إلى الميزرة كان مهموما جدا مثقلا بحساب الايام مر بالشارع الترابي للميزرة وهو لا يرى شيئا رغم ان عينيه تبصر جيدا ، كان الحاج محمد جالسا امام بيته حين مر حسن واستغرب كثيرا لماذا لم يلقي حسن عليه التحية
ــ الحاج محمد: حسن حسن ما بك يا ولدي فأنت لم تلقي عليّ التحية اليوم
ـ حسن : لا شيء يا عماه كنت مشغولا بموضوع ولم انتبه
ــ الحاج محمد : عسى ان يكون خيرا يا ولدي
ــ حسن : نعم خيرا ان شاء الله
ثم اعتذر حسن من الحاج محمد والقي عليه التحية بما يستحق من تقدير وبما أمر به الله سبحانه وتعالى ، وسار في طريقه محرجا من هذا الموقف ودخل بيته وهو يردد بعض الكلمات مع نفسه فشاهدته والدته وقالت له هل راودتك مرة اخرى فقال لها لا يا اماه لقد انتهى هذا الموضوع والفضل يعود اليك ، اذن بماذا كنت تفكر يا ولدي اراك مهموما وانت تحدث نفسك ، قص عليها حكايته مع جيرانه الحاج محمد فأبتسمت والدته وهي تقول لا تتعجل الامور يا ولدي فالجمعة ليست بعيدة عنك وستعرف حقيقة ما تبحث عنه لكني يا ولدي اخشى عليك من المفاجئة وعدم قدرتك على استيعاب ما ترى فبغداد فيها الشيْ الكثير مما لم نألفه فهيئ نفسك لذلك ، هز حسن رأسه راضيا وهو يسير باتجاه الحمام ليغسل جسده المتعب من عناء يوم عمل شاق حيث تعودت زوجته ان تهيئ له الحمام كل يوم 0
ويستمر قلق حسن ومع مرور الأيام القلية سيكون يوم الجمعة غير بعيد ، وحين يمضي حسن إلى عمله المعتاد يوميا ويواجه زميله العامل البغدادي يصيبه الأمل بأن يرى السينما ،
ــ العامل : حسن غدا يوم الجمعة ونحن على الموعد أن شاء الله
ــ حسن : أ تعني سنذهب إلى السينما
ــ العامل : وهل بيننا موعد غير ذلك يا صاحبي
ابتسما ، وحين انهيا العمل اتفقا على اللقاء يوم غد في ساحة الميدان وسط بغداد عند الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر 0
كان حسن قد شعر لأول مرة أن يوم الخميس هذا سوف لن ينقضي وسيكون أصعب يوم وأطول يوم يمر به كيف لا وهو يحسب دقائقه وساعاته ، كيف لا وهو ينظر الى الغروب بعين تتوسل بأن يسرع ليمضي الليل بعده 0
وعند فجر يوم الجمعة كان حسن ينظر الى قرص الشمس وكأنه يحاكيه ان مر سريعا لتأتي الظهيرة وبعدها سأنطلق الى حيث ساحة الميدان حيث لقاء الاحبة 0
وتستمر الشمس بالشروق وتنتقل بمسارها الاعتيادي ووقتها المعلوم وعند الظهر تناول حسن طعام الغذاء وبعد شرب الشاي دخل الى عش الزوجية وغير ملابسه وتهيأ الى الرحيل 0
الى اين يا حسن سألته زوجته ، الى ساحة الميدان حيث التقي بزميلي ومن هناك سنذهب الى السينما ، اجل يا زوجي ارجو ان تحكي لنا ما تشاهده عند عودتك ، وهو كذلك 0
انطلق فرحا لا يدري ما ستخبئه له الاقدار لكنه كان على يقين ان صاحبه لن يخذله ابدا 0
وصل إلى ساحة الميدان يرقب الطريق عسى أن يرى صاحبه وبدأت عليه الدقائق أثقل مما كان يعتقد وكلما مرّ من أمامه شخص سأله كم الساعة ألان ، فيجيبوه حسب الوقت في لحظة السؤال وما هي إلا لحظات حتى جاء زميله بصحبة صديقيه وبعد التعارف السريع ساروا جميعا في الشارع الرئيسي ومروا من أمام جامع الحيدر خانة واستمروا بالسير باتجاه الباب الشرقي وقبل نهاية الطريق توقفوا حيث دار السنما وكان الزحام على شباك التذاكر تم قطع اربعة بطاقات وتسائل حسن ما هذه الاوراق ، انها بطاقات الدخول وعليها رقم الكرسي الذي سيجلس كل واحد منا فيه 0
دخلوا الصالة الخاصة بالعرض وهي مجهزة بوسائل التبريد وحين جلسوا في الأماكن المحددة لهم بدأ حسن ينظر إلى السينما ذات اليمين وذات اليسار وهو مندهش مما يرى إنارة كثيرة ومقاعد مريحة وتبريد جيد وأغاني جميلة يسمع صوتها لكنه لا يدري من أين يخرج الصوت وتساءل أين المغني يا صاحبي ، انه شريط مسجل ولا يوجد مغني هنا يا حسن 0
عند الرابعة تم إطفاء الإنارة بالتدريج وصمتت الأغاني وتعالت أصوات الموجودين بين صراخ وتصفيق وانطلقت صفارتهم في فضاء البناية وحسن لا يدري ماذا يجري وسأل صاحبه هل حدث خلل كهربائي ، لا يا حسن لكي يعرض الفلم على الشاشة أمامك لابد أن تطفئ الإنارة كي تظهر الصور واضحة 0
وبدأت ماكينة العرض تدور وسلط شعاعها على الستارة البيضاء وظهرت مقدمات الأفلام بحركاتها المعروفة وأصواتها التي ملئت المكان ، ذهل حسن كيف يسير الرجال هكذا ويتحادثون أنهم بشرا مثلنا وتمر الصور تباعا ويحاول حسن أن يستفسر من زميله فيطلب منه الصمت ألان سكت حسن على مضض فهو يحتاج إلى توضيح لكل ما رأى ألان 0
فترة قصيرة وفتحت الإنارة بالتدريج واختفت الصور أمامه فظن حسن أن الفلم قد انتهى فهم بالخروج وامسك زميله بيده إلى أين يا حسن ، الم نخرج لقد انتهى كل شيْ ، لم يبدأ الفلم بعد يا صاحبي هذه المقدمات فقط 0
جلس حسن لا يدري ماذا يقول وحين انقضت فترة الاستراحة بدأ عرض الفلم وإذا بالخيول تنطلق مسرعة وفرسانها يحملون السيوف وبين صهيل الخيل وضربات السيوف وقتل الرجال والدم النازف بين هذا وغيره صدم حسن أ تراق الدماء هكذا ويقتل الرجال وتمر الصور ويستمر الفلم بالتتابع ويظهر الأبطال بأجساد قوية مفتولة وعضلات بارزة يحملون السيوف والدروع وعرباتهم تجرها الخيول ويستمر العرض وتنتهي أحداث الفلم السينمائي وحسن مذهول مما رأى لا يدري كيف سيعالج الجرحى ومن سيدفن القتلى 0
أسدلت الستارة وبدأت الإنارة تعود بالتدريج وبدأ المتفرجون بالخروج لكن حسن بقي جالسا لا يدري ما يفعل لقد صدم مما رأى ، انهض يا حسن لقد انتهى العرض ، نهض من مكانه واسأله كثيرة تدور في رأسه وحين خرجوا جميعا بدأ حسن يتساءل وزميله يجيب وأيقن الحقيقة بأن ما عرض هو خدع سينمائية وليس حقيقة 0 عادوا جميعا إلى بيوتهم بعد هذه المتعة وفي الطريق كان حسن يحدث نفسه هل سيصدق الأهل ما سأقول 0
( 23 )
وصل حسن إلى بيته البسيط المتواضع في الميزرة وتجمعت العائلة حوله لتعرف حقيقة ما شاهد حسن ، احكي لنا ما شاهدت يا حسن ، لقد رأيت العجب العجاب ، قالت زوجته ماذا رأيت لقد شوقتنا احكي لنا ، بناية السينما كبيرة جدا وفيها كراسي كثيرة على شكل مدرج وفيها انارة كهربائية وتبريد جيد وامامنا مباشرة توجد الشاشة وهي قطعة قماش بيضاء كبيرة مثبتة على الحائط وعليها يعرض الفلم 0
احكي لنا الفلم يا حسن ، شيْ لا يصدق رجال يتحركون ويتكلمون وخيول تصول وتجول وفرسانها يحملون السيوف معركة قاسية فيها يقتل الناس ويجرحون وعربات تجرها الخيول تحمل المقاتلين ذو أجساد قوية مفتولة 0 شيْ عجيب لم أرى مثله من قبل ذهلت مما رأيت وتساءلت لكي اعرف الحقيقة فابلغني زميلي انه تمثيل وكل ما رأيت من قتلى وجرحى وحرائق هو خدع سينمائية لا غير 0
فوجئ الجميع حين سمعوا ما قال حسن وتمنوا أن يروا الأشياء على حقيقتها أي أن يذهبوا لرؤية السينما وهذا حلم لا يتحقق لأنه يتقاطع مع أخلاقيات الهور 0
مضت سنتين تقريبا عليهم في الميزرة وقرر حسن ايجار قطعة الارض في منطقة الكسرة ليشيد عليها داره كان ذلك في اذار 1958 م ، اتصل حسن بزميله البغدادي وذهبا الى صاحب الارض من عائلة الساجي المعروفة في المنطقة واتفقوا على ايجارها السنوي قطعة ارض لا تتجاوز مساحتها ثمانين مترا مربعا وبدأ حسن ببناء الدار البسيط المتواضع ذو الطابق الواحد بعد دعم والدته وزوجته له ماديا وبمساندة زميله وتوسطه لدى بيت الساجي وقد اكمل حسن بناء الدار في مايس من نفس العام وشد الرحال اليه بعد تحميل محتويات صريفته من اثاث وغيره ثم ودع الاقرباء والجيران والاصدقاء وانطلقت السيارة الى حيث منطقة الكسرة وهناك تم ترتيب العفش وقام الجيران بتقديم المساعدة لهم وبدأ التعارف بينهم 0
ولأول مرة تشعر عائلة حسن بالراحة التامة حيث أن السوق قريب جدا وفيه الفواكه والخضروات واللحوم وكل متطلبات البيت الأخرى كما أن البيت فيه مصابيح إنارة تعمل بالكهرباء فودعوا بذلك اللالة والفانوس النفطي وان الماء الصافي يأتي اليهم عبر انابيب معدنية من الاسالة مباشرة وتركوا بذلك اواني جلب الماء المصنوعة من الصفيح 0
بدأت عائلة حسن تشاهد كل يوم رتل كتيبة خيالة البلاط الملكي وهم يمرون بشوارع المنطقة كونها قريبة منهم حيث الفرسان يمتطون صهوات الخيول العربية الأصيلة التي تسير برشاقة واضحة وكذلك تشاهد البلاط الملكي كونه قريبا منهم أيضا الواقع من جهة نهر دجلة الخالد وهو مقر الحكم بمساحة كبيرة 0
ولم تمضي سوى شهرين أي في 14 تموز 1958 م وعند الصباح الباكر بدأ البغداديون يسمعون صوت الطائرات وهي تخترق سماء بغداد وأصوات الدبابات وأزيز الرصاص ثم تعالت أصوات الانفجارات من فوهات المدافع ومنع الناس من الخروج الى اعمالهم اليومية وهل يستطيع الناس الخروج بمثل هذه الظروف الغامضة ؟ 0
صعد الناس إلى السطوح ليستطلعوا الوضع دون جدوى وخرج قسم منهم إلى بدايات الشوارع باتجاه البلاط الملكي لينظروا ماذا حدث والقسم الأخر بدأ يستمع إلى الإذاعة عسى أن يسمع الخبر اليقين ويستمر قلق الناس ويستمر أزيز الرصاص وصوت الانفجارات ويبدأ الجيش النزول الى الشوارع سرايا تطوق وزارة الدفاع في الباب المعظم واخرى تطوق البلاط الملكي وقوات اخرى تحيط بقصر الزهور بجانب الكرخ ودبابات اقتحمت بناية الاذاعة فقطع البث الاعتيادي وبدأت الاذاعة تبث الاناشيد الوطنية ، لا زال القلق يساور الناس وهم لا يعلمون ما الذي حدث وعائلة حسن هي الاخرى اصابها ما اصاب الناس من قلق وذعر لا احد يعرف الحقيقة وانى لهم ذلك والانفجارات مستمرة واصوات الأليات العسكرية مستمر والطائرات تسيطر على سماء بغداد 0
ــ حسن : لا احد يصعد إلى السطح ابقوا في أماكنكم
ــ والدته : ماذا حدث يا ولدي
ــ حسن : لست ادري ، غير ان اصوات كهذه لا تعني الا شيْ واحد
ــ والدته : ما هو يا ولدي
ــ حسن : الحرب 00 الحرب يا أمي
ويخيم الوجوم والحزن على جميع العائلة ، ثم يخرج حسن من داره ، إلى أين يا ولدي ، إلى بيت جاري يا أمي ، قالت زوجته لا تخرج يا حسن ، سأستطلع الأمر فجاري عنده راديو ( المذياع ) سأسمع الأخبار وأعود أليكم 0
وعند جاره وجد الناس مجتمعين وهم يسمعون الأناشيد الوطنية وعلامات الحذر بادية على الوجوه فلا احد يعلم ما حدث وما هي ألا لحظات فيصدح صوت المذيع أيها الشعب العراقي البطل أليكم البيان رقم واحد ويستمر بقراءة البيان ويفهم الناس جميعا ما حدث 0
لقد تم القضاء على الملكية واعلان الجمهورية العراقية وقام بذلك مجموعة من الضباط الوطنيين وتسلموا زمام الأمور والحكم في العراق ، عاد حسن إلى عائلته ينقل أليهم الأخبار وبدأت العائلة تسأل عن مصير الملك وعائلته ولا احد يعرف الجواب وتمضي الساعات الأولى وتتوالى الأخبار عن مقتل الملك وجميع أفراد عائلته وتعلن حالة الطوارئ ويطبق نظام ممنوع التجول في عموم العراق وخاصة بغداد وشيئا فشيئا تظهر الحقائق وتخفف حالة الطوارئ ويرفع منع التجوال 0
وينقسم العراقيون بين مؤيد للثورة وبين غير مؤيد لها ، أناس فرحون بها وينددون بالملكية واناس حزينون على موت الملك وعائلته وينددون بالظباط الذين قاموا بقتلهم 0
ويوم بعد آخر تتكشف الأمور ويستقر العراق وتهدأ موجة التوتر لتبدأ بعدها مرحلة البناء وإصدار القرارات ويدير الزعيم عبد الكريم قاسم دفة الحكم ويبدأ بإصدار قرارات كثيرة في مجال الزراعة والنفط وإسكان المواطنين وغيرها الكثير فيأمر بإنشاء مدينة الثورة وتوزيع دورها على العوائل الفقيرة المهاجرة من الجنوب فينتقل اهل الميزرة الى هناك 0
ليسكنوا لاول مرة في دور مشيدة من الطابوق وينهوا بذلك رحلة عذاب استمرت طويلا ولكن هل استقر بهم الحال ام بدأ العذاب هناك من جديد ؟ 0 نعم لم تنتهي رحلة العذاب لكن وطأتها كانت اقل فتبقى عذابات الفقراء في وطني بلا نهاية 0
يستمر حسن بالعمل مع المقاول ويحرص على أن ينشأ ولده حسين بموجب الأخلاق الحميدة وان يعلمه مهنة يستفاد بها في حياته فهو مثل ابيه امي لايجيد القراءة والكتابة وما ان اصبح عمره العشرين عاما حتى اتقن مهنة تأسيس انابيب المياه التي تعلمها من استاذه في المحل الذي يعمل فيه واصبح يعتمد عليه لاتقانه المهنة وحرصه العالي الجودة على اتمام العمل بشكل يرضي الله تعالى ويرضي صاحب العمل ، كان حسين مثل ابيه حريصا في عمله لم تلهيه الحياة بملذاتها ابدا وكان جل تفكيره كيف يطور وضعهم المادي وكيف يعين والده في مصروف البيت وكيف يخدم عائلته ويوفر لها كل مستلزمات الراحة المطلوبة هنا في بغداد 0
كان والده حسن يشد من أزره ويشجعه على العمل وينمي فيه روح التعاون مع الجميع وكان حسين مثالا للطاعة والوفاء لوالده حريصا على تنفيذ أوامره حيث كان حسين يعطي كامل أجرته لوالده كي يتصرف بها لتلبية احتياج العائلة والفائض يجمعه للظروف الطارئة ايضا ، وحين بلغ حسين الخامسة والعشرين من عمره اي في عام 1971 م قام حسن بزواج ولده حسين من احدى النساء من جيرانه وكان عرسا مشهودا بافراحهه ومسراته ضم جميع الاهل والاصدقاء والجيران ولم تمضي الا شهور قليلة واذا بالموت يجيْ بشكل مفاجئ فينتقل حسن الى جوار ربه كان موته مفاجئ للجميع لكنه مقدر من الله سبحانه وتعالى فلا شيْ عنده يأتي بغير حساب وتصاب العائلة بخلل واضح وارتباك كبير حالة مأساوية اخرى وبين نحيب النساء وبكائهنّ وبين دموع الرجال ينقل الجثمان الطاهر الى حيث مثواه الاخير في مقبرة النجف الاشرف بصحبة الجيران والاحبة 0
ويصاب حسين بأزمة نفسية حادة تعيقه عن العمل لفترة وجيزة لولا تدخل الأخيار من جيرانه وتخفيف مصابه وشحذ همم الرجولة فيه حتى عاد إلى رشده سويا وبدأ بمزاولة العمل من جديد ليعيل عائلته 0
كانت زوجة حسين حبلى وفي شهورها الأخيرة وما أن اقتربت ساعة الولادة وبدأت طلاقاتها وأحدثت صريخا حتى سارعوا إلى نقلها إلى مستشفى النعمان في الاعظمية وهناك وضعت مولودها الاول وخرج كادر التمريض ليبشر العائلة بذلك
ــ الممرضة : مبروك رزقتم بولد جميل
ــ حسين : الحمد لله وكيف والدته
ــ الممرضة : صحتها جيدة ، ماذا سيكون اسم الطفل
ــ حسين : على اسم والدي حسن 00 حسن
وبدأ حسين يوزع اكرامياته على كادر التمريض فرحا مسرورا ثم عاد بزوجته الى بيت العائلة في منطقة الكسرة وعمت الفرحة جميع العائلة وجميع الجيران وبدأت النسوة تزورهم وتبارك لهم مولودهم الاول وهنّ يحملن الهدايا 0
والرجال من الجيران باركوا لحسين وأعربوا عن سرورهم بتسميته هذه حيث أحيا ذكرى والده وتمضي الأيام ويأتي عام 1973 حيث حرب تشرين مع العدو الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين وتذهب جحافل العراق من قواته المسلحة بمختلف صنوفها إلى حيث جبهات الشرف والعز دفاعا عن المدن العربية والأرض العربية كما سبقتها طائرات الهنتر العراقية المتواجدة على ارض مصر العربية بضرب اوكار الصواريخ الصهيونية ، وتستمر المعركة بأيامها السبع والاعمال المدنية شبه متوقفة في بغداد بسبب هذه الحرب حيث انشغل الناس بمتابعتها والاستفسار عن ابنائهم المقاتلين عن طريق وحدات الجيش او وزارة الدفاع حالة من القلق يعيشها العراقي لايدري مصير ابنه او اخيه او والده وتذاع انباء الانتصارات على العدو وكيفية عبور خط بارليف من قبل القوات المصرية وتتوالى الانباء السارة والشعب هنا يفرح بها ويقدم لها التعزيزات 0
كان حسين يفكر في أمر واحد فقط كيف إذا استمرت الحرب واستدعيت لخدمة الاحتياط فمن سيعيل العائلة بعدي وهو بحيرته هذه يسمع بأن الحرب قد توقفت ويذاع البيان الرسمي بذلك ويعود الجيش العراق المنتصر وتخترق جحافله شارع المغرب والناس تستقبله استقبال الأبطال وتلقي عليهم الورود وكان حسين من ضمن المستقبلين وبين حشود الجماهير يلقي بالحلوى على القوات العراقية العائدة من الحرب 0
وتزدهر الأعمال من جديد ويباشر الناس بممارسة مهنهم وتمضي الأيام والشهور مسرعة وحسين لم يتغير يكد ويعمل من اجل العائلة ولم تتبدل أخلاقياته وهو المعروف بالشيمة والنخوة والأخلاق الحميدة يحب مساعدة الآخرين ومعروف عنه التسامح والطيب وحب الآخرين كان سباقا لفعل الخير يشارك الجيران أفراحهم ومسراتهم وإحزانهم ومآتمهم بل ويقف في خدمة ضيوفهم كأنه هو صاحب الشأن ولم تنقص هذه المواقف من حب الناس واحترامهم أليه بل زادته حبا وتقديرا .
عدل سابقا من قبل Admin في الثلاثاء يوليو 24, 2012 4:05 pm عدل 3 مرات