الماسة البيضاء
حدث ذلك منذ عشر سنوات أو أكثر بقليل أواخر فصل الشتاء منتصف آذار، حين تقدمت نحوي فتاة شابة في عقدها التاسع عشر، حيث كنت أقف حارسا على البوابة المؤدية نحو مقهى السجن، بخدود موردة وشعر قمحي مجعد جميل، عينيها اللوزيتين تحملان بريقا جميلا يعكس لونا عسليا زجاجي، رسم وجهها منحوت من حجر البلور الماسي، هامتها تنطبع في ذاكرتك لحظة تقتنصها الرؤية، تكتسي معطفا أسود اللون وقميصا أبيضا وتنوره حمراء قصيرة، وحول عنقها تلف وشاحا أحمر، قدمها تنتعل بوطا منطرح الكعب طويل الخف وفي يدها تحمل باقة ورد حمراء وعلبة شكولاتة، للحظة كدت أظنه مجرد تهيؤ، ففي تلك الأماكن الوضيعة يستحيل أن يزهر الورد يوما أو يشرق النور حينا، لولا أنها بادرتني بصوت عذب أشبه بالهمس،
- مرحبا
- أهلا
- لقد سمح لي الشرطي عند تلكم الباب الصغيرة بالدخول، وقال أن أبحث معك قضية الزيارة إن سمحت لي طبعا؟
- تزورين من؟
- رفيق، تم احتجازه منذ ما يقارب تسعة أشهر،
- الآن فقط فكرت في زيارته ؟؟؟ ماذا عن التسعة أشهر التي مضت؟
- بلى زرته مرار لكن لم يحدث أن صادفتك، لقد قيل لي أنك كُلفت بالمهمة جديدا،
- صحيح، كنت أقف على مراقبة الزنازين في الداخل،
حملت بطاقتها أدخل لأعلم المكلف بإخبار السجناء للاستعداد لاستقبال الزيارة، دون أن أسألها عن اسم المقصود، فقد سمعت عنهما من قبل، عن قصص تحكي عن احتفالات بأعياد الميلاد، وعن تبادل للرسائل والهدايا، وأشعار الحماس والنضال وعلب الشكولاتة...
توالت زياراتها للسجن وتعلمنا كيف نحترمها ونفتح لها الأبواب دون استفسار أو سؤال، ودون إذن أو بطاقة، كانت تضفي علينا بهجتها وتنفض بعض الكآبة الساكنة في زوايا السجن ثم تمضي راحلة، حتى الجلاد الذي تعلم القسوة والصلابة لانت ابتسامته لها ودار السياط عن أعينها خجلا منها،
لقد تابعت تفاصيل هذه القصة واستغربت وجود ذلك الرابط المتين بين رجل وامرأة وذلك القدر من التضحية والوفاء، والتلاحم الغريب في زمن يحدده ما هو مادي زائل،
لقد تعلمت منها كيف يُسقى المبدأ بالإحساس الدافئ والشعور الصادق؟ كيف تُمتص القوة من عمق الألم، وتتحول القسوة إلى عذوبة والألم لذة لا تقاوم،
شاهدتهما إلى أن رأيتها تستقبله في أحضانها لحظة فكت قيوده، ورأيته يستعيد حريته حين أوى بين ذراعيها، ولحظة لوحا لي من بعيد وتلاشيا عند حدود البصر يعلماني أن عمر القيد قصير،
ومنذ ذلك الحين لم أعاود رؤيتها إلى أن جاء ذلك اليوم حيث اصطدمت بها أمام محطة البنزين، لكن في تلكم المرة حين التقيتها كانت على غير عادتها، شاحبة اللون، عينيها الذابلتين قد فقدتا بريقهما المعهودة وجسدها الفتي أصبح هزيلا ضعيف القوى، ثيابها رثة وكبريائها ممسوخ، تتسحب متشبثة بالجدار تتسول الصدقات، لقد ضاعت الماسة البيضاء في قعر البحر وتلاطمت فوقها الأمواج وأخذتها إلى غير محيط، لم يعد يصلها شعاع الشمس الذهبي ولا تزورها نسمات الربيع، وما عاد يطربها حفيف أوراق الخريف ولا صوت مطر الشتاء،
لقد أشفقت لوضعها وزلزلتني ركلات الجنين في أحشائها، دموعها أحرقت رجولتي وهاجت لأجلها أبوتي، لم أخل يوما أن تلك العيون البريئة قد تهجر يوما لأي سبب كان، أو قد تعبأ في أكياس النفايات وتترك في الزوايا العفنة فوق أكوام القمامة تقتاتها القطط المشردة والكلاب عابرة السبيل،
كيف يمكن لفتيل نار تحوم به الرياح أن يحول بستان ورد إلى رماد؟ أليست هي نفسها التي صنعت منه رجلا؟؟ ضحت لأجله وتألمت لآلامه، هي من انتشلته من فم الموت لحظة احتضاره و أعادت إليه بهجة الحياة ومن حريتها عزفت له لحن الأمل وكفت عنه قرع طبول اليأس و الكآبة، لقد وعدته بغد جميل ومستقبل مشرق ووعدها بوطن حر وطفل يحمل مشعل نصر، لكنه صنع لها مخاض طفل مجهول الهوية، ووطنا يحمل وزر خطيئة مورست على فراش المبادئ واللاَّ مساومات في ليلة الثورة الحمراء، تركها تئن من وجع المخاض وتتمرغ في دماء الندامة في نقطة الوسط، عند خط اللاَّ عودة، وفي السلم الأخير حيث تتلاشى العتبة إلى المستقبل، كانت وكأنها الثورة التي لم يكتب لها أن تتم، كالتي فقدت قائدها وانشقت الأرض فجأة فابتلعت جيوشها، ولحظة تقررت الانتفاضة حين تم خيار الثورة ضاع التاريخ وانمحت الذاكرة الشعبية وابتلعت السماء كل الكتب الحمراء،
في تلك الليلة المشؤومة رغم أننا كنا أواخر الربيع تلبدت السماء بالغيوم وأمطرت فبكت غزيرا وصرخت رعدا مهولا، اختلط صفير الرياح بصراخها وعويله بأنينها، لم يكن الفجر إلا ليمنحنا طفلا جميل المحيا يكتم صرخة رضيعة خجلا من جفون أمه، أوته العجوز عندها وأطعمته الأم الضعيفة حليبها، غير أن الفجر الرابع عشر عند انقضاء ليلة البدر طبعت على جبينه قبلة وباركته برضا أم لم تقر عينها بولدها، وعبثا حاورت الحمام وترجتها التريث لكنها أبت إلا أن تسترد وديعتها وترحل بها إلى سماء اللاَّ عودة، لفت حول معصمه شريطا أحمر طرزت فوقه اسمه ''سالم'' ثم ضمت يده الصغيرة إلى صدرها في حنو، واغرورقت عيناها بدموع الوداع، وفي لحظات تسللت الروح بهدوء وسلمت نفسها للمنية،
ظل الرضيع عند المولدة العجوز التي استضافتها خلال أيامها الأخيرة نزولا عند طلبي، كانت تدور به بيوت الحوامل، تولدهن وتأخذ عنهن أجرتها إرضاع الطفل مدة شهر أو أقل أو ما استطعن، وقد تتطوع إحداهن بشهرين أو ربما أكثر بقليل، وما أن بلغ حولين حتى أصبح الطفل سالم أخا لكل أهل الحي إن لم أقل المدينة والوطن كله.
حدث ذلك منذ عشر سنوات أو أكثر بقليل أواخر فصل الشتاء منتصف آذار، حين تقدمت نحوي فتاة شابة في عقدها التاسع عشر، حيث كنت أقف حارسا على البوابة المؤدية نحو مقهى السجن، بخدود موردة وشعر قمحي مجعد جميل، عينيها اللوزيتين تحملان بريقا جميلا يعكس لونا عسليا زجاجي، رسم وجهها منحوت من حجر البلور الماسي، هامتها تنطبع في ذاكرتك لحظة تقتنصها الرؤية، تكتسي معطفا أسود اللون وقميصا أبيضا وتنوره حمراء قصيرة، وحول عنقها تلف وشاحا أحمر، قدمها تنتعل بوطا منطرح الكعب طويل الخف وفي يدها تحمل باقة ورد حمراء وعلبة شكولاتة، للحظة كدت أظنه مجرد تهيؤ، ففي تلك الأماكن الوضيعة يستحيل أن يزهر الورد يوما أو يشرق النور حينا، لولا أنها بادرتني بصوت عذب أشبه بالهمس،
- مرحبا
- أهلا
- لقد سمح لي الشرطي عند تلكم الباب الصغيرة بالدخول، وقال أن أبحث معك قضية الزيارة إن سمحت لي طبعا؟
- تزورين من؟
- رفيق، تم احتجازه منذ ما يقارب تسعة أشهر،
- الآن فقط فكرت في زيارته ؟؟؟ ماذا عن التسعة أشهر التي مضت؟
- بلى زرته مرار لكن لم يحدث أن صادفتك، لقد قيل لي أنك كُلفت بالمهمة جديدا،
- صحيح، كنت أقف على مراقبة الزنازين في الداخل،
حملت بطاقتها أدخل لأعلم المكلف بإخبار السجناء للاستعداد لاستقبال الزيارة، دون أن أسألها عن اسم المقصود، فقد سمعت عنهما من قبل، عن قصص تحكي عن احتفالات بأعياد الميلاد، وعن تبادل للرسائل والهدايا، وأشعار الحماس والنضال وعلب الشكولاتة...
توالت زياراتها للسجن وتعلمنا كيف نحترمها ونفتح لها الأبواب دون استفسار أو سؤال، ودون إذن أو بطاقة، كانت تضفي علينا بهجتها وتنفض بعض الكآبة الساكنة في زوايا السجن ثم تمضي راحلة، حتى الجلاد الذي تعلم القسوة والصلابة لانت ابتسامته لها ودار السياط عن أعينها خجلا منها،
لقد تابعت تفاصيل هذه القصة واستغربت وجود ذلك الرابط المتين بين رجل وامرأة وذلك القدر من التضحية والوفاء، والتلاحم الغريب في زمن يحدده ما هو مادي زائل،
لقد تعلمت منها كيف يُسقى المبدأ بالإحساس الدافئ والشعور الصادق؟ كيف تُمتص القوة من عمق الألم، وتتحول القسوة إلى عذوبة والألم لذة لا تقاوم،
شاهدتهما إلى أن رأيتها تستقبله في أحضانها لحظة فكت قيوده، ورأيته يستعيد حريته حين أوى بين ذراعيها، ولحظة لوحا لي من بعيد وتلاشيا عند حدود البصر يعلماني أن عمر القيد قصير،
ومنذ ذلك الحين لم أعاود رؤيتها إلى أن جاء ذلك اليوم حيث اصطدمت بها أمام محطة البنزين، لكن في تلكم المرة حين التقيتها كانت على غير عادتها، شاحبة اللون، عينيها الذابلتين قد فقدتا بريقهما المعهودة وجسدها الفتي أصبح هزيلا ضعيف القوى، ثيابها رثة وكبريائها ممسوخ، تتسحب متشبثة بالجدار تتسول الصدقات، لقد ضاعت الماسة البيضاء في قعر البحر وتلاطمت فوقها الأمواج وأخذتها إلى غير محيط، لم يعد يصلها شعاع الشمس الذهبي ولا تزورها نسمات الربيع، وما عاد يطربها حفيف أوراق الخريف ولا صوت مطر الشتاء،
لقد أشفقت لوضعها وزلزلتني ركلات الجنين في أحشائها، دموعها أحرقت رجولتي وهاجت لأجلها أبوتي، لم أخل يوما أن تلك العيون البريئة قد تهجر يوما لأي سبب كان، أو قد تعبأ في أكياس النفايات وتترك في الزوايا العفنة فوق أكوام القمامة تقتاتها القطط المشردة والكلاب عابرة السبيل،
كيف يمكن لفتيل نار تحوم به الرياح أن يحول بستان ورد إلى رماد؟ أليست هي نفسها التي صنعت منه رجلا؟؟ ضحت لأجله وتألمت لآلامه، هي من انتشلته من فم الموت لحظة احتضاره و أعادت إليه بهجة الحياة ومن حريتها عزفت له لحن الأمل وكفت عنه قرع طبول اليأس و الكآبة، لقد وعدته بغد جميل ومستقبل مشرق ووعدها بوطن حر وطفل يحمل مشعل نصر، لكنه صنع لها مخاض طفل مجهول الهوية، ووطنا يحمل وزر خطيئة مورست على فراش المبادئ واللاَّ مساومات في ليلة الثورة الحمراء، تركها تئن من وجع المخاض وتتمرغ في دماء الندامة في نقطة الوسط، عند خط اللاَّ عودة، وفي السلم الأخير حيث تتلاشى العتبة إلى المستقبل، كانت وكأنها الثورة التي لم يكتب لها أن تتم، كالتي فقدت قائدها وانشقت الأرض فجأة فابتلعت جيوشها، ولحظة تقررت الانتفاضة حين تم خيار الثورة ضاع التاريخ وانمحت الذاكرة الشعبية وابتلعت السماء كل الكتب الحمراء،
في تلك الليلة المشؤومة رغم أننا كنا أواخر الربيع تلبدت السماء بالغيوم وأمطرت فبكت غزيرا وصرخت رعدا مهولا، اختلط صفير الرياح بصراخها وعويله بأنينها، لم يكن الفجر إلا ليمنحنا طفلا جميل المحيا يكتم صرخة رضيعة خجلا من جفون أمه، أوته العجوز عندها وأطعمته الأم الضعيفة حليبها، غير أن الفجر الرابع عشر عند انقضاء ليلة البدر طبعت على جبينه قبلة وباركته برضا أم لم تقر عينها بولدها، وعبثا حاورت الحمام وترجتها التريث لكنها أبت إلا أن تسترد وديعتها وترحل بها إلى سماء اللاَّ عودة، لفت حول معصمه شريطا أحمر طرزت فوقه اسمه ''سالم'' ثم ضمت يده الصغيرة إلى صدرها في حنو، واغرورقت عيناها بدموع الوداع، وفي لحظات تسللت الروح بهدوء وسلمت نفسها للمنية،
ظل الرضيع عند المولدة العجوز التي استضافتها خلال أيامها الأخيرة نزولا عند طلبي، كانت تدور به بيوت الحوامل، تولدهن وتأخذ عنهن أجرتها إرضاع الطفل مدة شهر أو أقل أو ما استطعن، وقد تتطوع إحداهن بشهرين أو ربما أكثر بقليل، وما أن بلغ حولين حتى أصبح الطفل سالم أخا لكل أهل الحي إن لم أقل المدينة والوطن كله.