الرئيسية
البوابة
أحدث الصور
التسجيل
دخول
من طرف الدكتور مصطفى البكري الأحد مايو 10, 2020 10:10 amمقال نقدي : مفارقات نقدية في وضع اليد على جوهر البديع
لن أكررما قيل مرارا عن مفهوم البديع اللغوي فقد أفاض دارسو تاريخ البلاغة العربية في ذلك؛ وضبطوا المفهوم من منطلق التركيز على البعد الدلالي للكلمة ؛ وراكموا خطابات حول نشأته على يد شعراء محدثين كابي نواس(ت190ه) ومسلم بن الوليد (ت208) قبل أن يجعله ابن المعتز(ت196ه) قاعدة لاصطلاحه النقدي ؛ ومدخلا لتنظيره البلاغي ؛ وسار على نهجه عدد من المتأخرين إلى عهد السكاكي و شراحه .
إن علماء البلاغة قد تلقفوا المصطلح بكيفية بالغة التعقيد أحيانا بسبب عدم وضوح الرؤية والتمييز بين مصطلح البديع كمنهج نقدي يعتمد البعد الأسلوبي في مقاربة النصوص الأدبية الشعرية والنثرية ومفهوم البديع باعتبار قيمة فنية.
والظاهر أن ابن المعتز- باعتباره واضع هذا المنهج –لم يتردد في تصنيف ودراسة الأساليب البلاغية وفق ما يمليه عليه ذوقه الفني وتجربته الأدبية فقد بشر بميلاد مشروع بلاغي يستخلص من متون الشعر والنثر الآثار الأسلوبية التي تحظى بقيمة فنية راقية على مستوى النظم أو التركيب والدلالة والإيقاع ، واهتم بالتفكير في بنية العبارة الفنية كملفوظ أدبي متكامل التركيب والدلالة يندرج في اطار عام سماه البديع أو المحسنات ويكتسي صفة مميزة داخل مختلف الخطابات الشعرية والنثرية .
ومن هذا المنطلق أرسى ابن المعتز منهجا نقديا يستوعب كل الظواهر البلاغية الأسلوبية، وتلقف الذين جاءوا بعده المصطلح والمنهج معا ؛ ووجدوا في خطابه غاية المراهنة على الابتكار والخلق؛ لأنهم وقفوا على قوله : " إن المحاسن كثيرة لا ينبغي للعالم إن يدعي الإحاطة بها ……فمن أحب أن يقتدي بنا و يقتصر بالبديع على تلك الخمس فليفعل ومن أضاف من هذه المحاسن أوغيرها شيئا إلى البديع فله اختياره. "(1)
وعلى هذا النحو ابتدع النقاد مناهج تسعى إلى التوفيق بين المحافظة على نهج ابن المعتز وفلسفته في دراسة الأساليب ؛وبين الإضافات الجديدة التي تمليها رؤى بلاغية عامة. وفي إطار هذا التصور تفتقت عبقرية قدامة بن جعفر (337ه)، وأبي هلال العسكري(ت395ه) وابن رشيق (ت 456ه)، وابن الأثير(ت 637ه). هذه المدرسة التي جمعت بين النقد النظري، ودراسة الأساليب وفق مبادئ تطبيقية(2).
ومع جهود السكاكي ( ت626ه) وشراحه مثل بدر الدين بن مالك (ت686ه )وسعد الدين التفتازاني(ت792ه) عرف مفهوم البديع توجها خاصا في المنهج والتصور؛ حيث كان سعي النقاد حثيثا نحو تقسيم البديع إلى ثلاثة مكونات (المعاني) و(البيان) و(البديع) فتم تفكيك بنيته المركبة ؛إيمانا منهم بان المقاصد البلاغية التي يستهدفونها تنصب حول البعد التعليمي أساسا؛ ضاربين صفحا عن العلاقة البنيوية بين تلك المكونات؛ وغير مدركين بأنهم جردوا المفهوم من مضمونه النقدي والمنهجي؛ بالرغم من شعار العلم الذي ألحقوه بالمكونات المصطنعة ، فقيل " علم (المعاني) ؛ (علم البيان ) ؛( علم البديع )
وبهذا أنكر على القزوينيت682ه) صنيعه لأنه اعتبر أول الجناة على الفكر البلاغي بسبب موقفه التعليمي الذي أتاح له إمكانية تصنيف البديع في دائرة الشكل العرضي للإبداع تبعا لفرضيته التي تقوم على أساس ثنائية: الجوهر / العرض . فعلما (المعاني) و(البيان )هما جوهر فن القول و( البديع) عرض يقصد به تحسين الكلام. لذلك عرفه بقوله : " البديع علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة ".(2)
ولا نستغرب إذا وجدنا عبد الفتاح لاشين ينتقد هذا الإجراء صابا جام غضبه على القزويني الذي أحدث أعمق انكسار في البناء البلاغي المتكامل حيث قال : " والخطيب بهذا قضى على ألوان البديع بان تكون حلى مزينة تكسو الكلام بهجة بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة ؛ وإنها عرضية وليست ذاتية كما جعله ذيلا وذنبا للعلمين( المعاني ) و( البيان) ؛ فكان بهذا العمل أول الجانين على ألوان البديع ممن ألفوا في البلاغة بوضعها هذا الوضع الشائن البغيض ؛ فقد اهتضمها حقها وأجحف بمنزلتها حينما جعلها ذيلا من ذيول البلاغة وذنبا من أذنابها لا تجيء إلا تابعة ؛ ولا تسموا إلى آفاق الذاتية والآصالة " (3)
إن فكرة تحسين الكلام مبثوثة في طيات المصادر النقدية أو البلاغية التي سبقت جهود القزويني إلا أنها نسبت في أصلها أى عموم البلاغة ونسبها السكاكي إلى البلاغة والفصاحة وما سماه بديعا يقول " وإذا تقرر أن البلاغة بمرجعيها وأن الفصاحة بنوعيها مما يكسو الكلام حلة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسن فههنا وجوه مخصوصة كثيرا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام ؛ فلا علينا أن نشير إلى الأعرف منها "
وقد كان البلاغيون يؤكدون جمال المعرض الخارجي للكلام البليغ . فالبلاغة – حسب اعتقاد أبي الهلال العسكري(ت – " كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك ،مع صورة مقبولة ومعرض حسن " (4)
انطلاقا من هذا التصور فإن فكرة الجوهر والعرض في التعبير الأدبي ظلت حاضرة في ذهن البلاغيين وكان لها أثر سيئ على مفهوم البديع خصوصا عند شراح السكاكي أو البلاغة التعليمية بشكل عام ؛ حيث أصبح الكلام الأدبي تعبيرا دالا عن المعنى المقصود، لكنه يكتسي طلاءا خارجيا وزينة عرضية؛ هي( البديع) الذي يعتبر مصدر الحسن؛ ولذلك أعتقد أن السمة المميزة للبديع هي المظهر العرضي .
لم يتنبه الشراح إلى إشكالية الذاتي والعرضي في بنية العبارة الفنية التي تعتبر بنية مركبة ترفض هذا التمييز. ولعل الدافع الرئيس الذي قادهم إلى هذه المفارقة العجيبة؛ هو بحثهم عن إيجاد صيغة مناسبة وتعليمية لتمييز أشكال المحاسن _ التي اصطلحوا عليها بالبديع _ عن علمي (المعاني) و (البيان) مع جهلهم بالبنية المركبة للكلام الأدبي ولغته الفنية، إذ لا يصح _ ولو من منظورهم الخاص_ فصل (المعاني) عن (البيان) و(البديع) . وتبين بعد الدراسة أن ابتداعهم هذا التميز بين العرضي والجوهري في الكلام الأدبي واعتبار (البديع) مرتبطا بالعرض هو حصيلة إرث بلاغي متقدم نشأ تحت تأثير نزعة الفصل بين اللفظ والمعني التي ألقت بظلالها على مختلف أشكال الممارسة النقدية وتنظيراتها؛ بدءا من جهود الجاحظ (ت255ه) .
لقد كرس ابن طباطبا (ت322ه) _ على سبيل المثال _جهوده النظرية لوصف آليات اشتغال الأديب على صناعة الشعر، ولم يتردد في إقحام قضية اللفظ والمعنى ظمن تنظيراته الأساس. لكن وظيفة اللفظ عنده تندرج في إطار الموضوعات العرضية .إد تساهم – حسب اعتقاده – في تحسين المظهرالخارجي للكلام . لذا لم يتخلص من فكاك الأسر الذي فرضته مقولة الجوهر والعرض في العمل الأدبي. و راح يعتبر هذه المقولة منطلق الإبداع في قوله المشهور " إذا أراد الشاعر بناء قصيدة؛ مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، واعد له ما يلبسه اياه من الألفاظ التي تطابقه "
وبهذا تصبح الألفاظ كسوة أو حلية خارجية للكلام الأدبي ؛ و يتم ترسيخ الاعتقاد بأن الإبداع لا يتطلب أكثر من إتقان المعرض الخارجي وتوخي الدقة فيه ؛ وإحكام صنعه من أجل ضمان التأثير في نفس المتلقي فالشاعر – حسب رأي ابن طباطبا كـ"النقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه؛ ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان " (5)
لذلك أصبح التفكير في (البديع( من زاوية اللفظ ومقاربة (البيان) من زاوية المعنى منهجا قارا في البلاغة العربية . فالاشتغال الإبداعي على المعاني يتيح إمكانية المراهنة على الابتكار والخلق ؛ بينما أضحى التركيز على اللفظ يرمي إلى تحقيق ( الزينة ) و( لاستطراف). وبتعبير أدق يتيح إمكانية التصرف في وجوه البديع .
وقبل ذلك بشر ابن رشيق الشراح بأن الفكر البلاغي سيعمد إلى الفصل بمنتهى الحسم بين مجالين " وهميين " مجال دلالي ذاتي يكتسي صفات ذاتية جوهرية ؛ ومجال لفظي بديعي يكتسي صفات عرضية ؛ خصوصا أثناء تمييزه الواضح بين مفهوم: ( الاختراع ) و( التوليد) و( الإبداع ) الذي أضحى مرجعا لكل من رام ضبط هذه المفاهيم أو المصطلحات ، بل خطر لابن رشيق أن لا يكلف الآخرين عناء البحث والفصل بينه هذه المصطلحات ومفاهيمها ؛ فصاغ آراءه وأدلى بتصوراته قائلا : " الفرق بين الاختراع والإبداع ... أن الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قط ، والإبداع إتيان الشاعر باللفظ المستظرف الذي لم تجر العادة بمثله ؛ ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع ....فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ " (6)
ولاشك أن شراح السكاكي قد تبنوا هذا التصور بكامل الإخلاص ؛ وفتحوا المجال للبلاغة التعليمية كي تجد مبررا نقديا يضع البديع موضع الذيل التابع لعلمي المعاني والبيان وتلخص وظيفته الأدبية في تحسين اللفظ باعتباره طلاءا خارجيا أو صباغة مزينة و كسوة جميلة؛ ضاربين- بذلك - صفحا عن مشروع ابن المعتز الذي راهن على إثبات البنية المركبة لمفهوم البديع دلالة وتركيبا وإيقاعا ، أو لفظا ومعنى .
نستنتج في النهاية ما يثيرالغرابة ؛ فإن بعض دعاة التجديد البلاغي من الباحثين المحدثين قد اعترفوا بولائهم لأطروحة الشراح ؛ وتلقفوا آراءهم بكامل الرضى دون أن يتنبهوا لهذا الإشكال الذي أفضى إلى خلل منهجي في الرؤية المتكاملة للبديع التي برهنت عنها تجربة ابن المعتز في كتابه البديع ،وابن أبي الأصبع المصري (ت654ه )في كتابيه (تحرير التحبيرفي الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن) و( بديع القران ) ومن كان يحدو حدوهما في مسار الاشتغال النقدي؛ فهذا مصطفى المراغي(ت 1945ه) قد أدلى بكلام لا تتبين مغزاه إلا بعد وقوفك على مقاصد الشراح من أطروحة البديع وآرائهم حولها . حيث كتب قائلا " المستفاد من علم البديع الحسن العرضي والمستفاد من العلمين السالفين (يقصد علمي المعاني والبيان)الحسن العرضي "(7)
الهوامش:
(1) البديع : 106
(2) الايضاح : 348
(3) البديع في ضوء اساليب القران :13
(4) كتاب الصناعتين : 16.
(5) عيار الشر : 11
(6) العمدة : 1/ 453
(7) علوم البلاغة : 290
لن أكررما قيل مرارا عن مفهوم البديع اللغوي فقد أفاض دارسو تاريخ البلاغة العربية في ذلك؛ وضبطوا المفهوم من منطلق التركيز على البعد الدلالي للكلمة ؛ وراكموا خطابات حول نشأته على يد شعراء محدثين كابي نواس(ت190ه) ومسلم بن الوليد (ت208) قبل أن يجعله ابن المعتز(ت196ه) قاعدة لاصطلاحه النقدي ؛ ومدخلا لتنظيره البلاغي ؛ وسار على نهجه عدد من المتأخرين إلى عهد السكاكي و شراحه .
إن علماء البلاغة قد تلقفوا المصطلح بكيفية بالغة التعقيد أحيانا بسبب عدم وضوح الرؤية والتمييز بين مصطلح البديع كمنهج نقدي يعتمد البعد الأسلوبي في مقاربة النصوص الأدبية الشعرية والنثرية ومفهوم البديع باعتبار قيمة فنية.
والظاهر أن ابن المعتز- باعتباره واضع هذا المنهج –لم يتردد في تصنيف ودراسة الأساليب البلاغية وفق ما يمليه عليه ذوقه الفني وتجربته الأدبية فقد بشر بميلاد مشروع بلاغي يستخلص من متون الشعر والنثر الآثار الأسلوبية التي تحظى بقيمة فنية راقية على مستوى النظم أو التركيب والدلالة والإيقاع ، واهتم بالتفكير في بنية العبارة الفنية كملفوظ أدبي متكامل التركيب والدلالة يندرج في اطار عام سماه البديع أو المحسنات ويكتسي صفة مميزة داخل مختلف الخطابات الشعرية والنثرية .
ومن هذا المنطلق أرسى ابن المعتز منهجا نقديا يستوعب كل الظواهر البلاغية الأسلوبية، وتلقف الذين جاءوا بعده المصطلح والمنهج معا ؛ ووجدوا في خطابه غاية المراهنة على الابتكار والخلق؛ لأنهم وقفوا على قوله : " إن المحاسن كثيرة لا ينبغي للعالم إن يدعي الإحاطة بها ……فمن أحب أن يقتدي بنا و يقتصر بالبديع على تلك الخمس فليفعل ومن أضاف من هذه المحاسن أوغيرها شيئا إلى البديع فله اختياره. "(1)
وعلى هذا النحو ابتدع النقاد مناهج تسعى إلى التوفيق بين المحافظة على نهج ابن المعتز وفلسفته في دراسة الأساليب ؛وبين الإضافات الجديدة التي تمليها رؤى بلاغية عامة. وفي إطار هذا التصور تفتقت عبقرية قدامة بن جعفر (337ه)، وأبي هلال العسكري(ت395ه) وابن رشيق (ت 456ه)، وابن الأثير(ت 637ه). هذه المدرسة التي جمعت بين النقد النظري، ودراسة الأساليب وفق مبادئ تطبيقية(2).
ومع جهود السكاكي ( ت626ه) وشراحه مثل بدر الدين بن مالك (ت686ه )وسعد الدين التفتازاني(ت792ه) عرف مفهوم البديع توجها خاصا في المنهج والتصور؛ حيث كان سعي النقاد حثيثا نحو تقسيم البديع إلى ثلاثة مكونات (المعاني) و(البيان) و(البديع) فتم تفكيك بنيته المركبة ؛إيمانا منهم بان المقاصد البلاغية التي يستهدفونها تنصب حول البعد التعليمي أساسا؛ ضاربين صفحا عن العلاقة البنيوية بين تلك المكونات؛ وغير مدركين بأنهم جردوا المفهوم من مضمونه النقدي والمنهجي؛ بالرغم من شعار العلم الذي ألحقوه بالمكونات المصطنعة ، فقيل " علم (المعاني) ؛ (علم البيان ) ؛( علم البديع )
وبهذا أنكر على القزوينيت682ه) صنيعه لأنه اعتبر أول الجناة على الفكر البلاغي بسبب موقفه التعليمي الذي أتاح له إمكانية تصنيف البديع في دائرة الشكل العرضي للإبداع تبعا لفرضيته التي تقوم على أساس ثنائية: الجوهر / العرض . فعلما (المعاني) و(البيان )هما جوهر فن القول و( البديع) عرض يقصد به تحسين الكلام. لذلك عرفه بقوله : " البديع علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة ".(2)
ولا نستغرب إذا وجدنا عبد الفتاح لاشين ينتقد هذا الإجراء صابا جام غضبه على القزويني الذي أحدث أعمق انكسار في البناء البلاغي المتكامل حيث قال : " والخطيب بهذا قضى على ألوان البديع بان تكون حلى مزينة تكسو الكلام بهجة بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة ؛ وإنها عرضية وليست ذاتية كما جعله ذيلا وذنبا للعلمين( المعاني ) و( البيان) ؛ فكان بهذا العمل أول الجانين على ألوان البديع ممن ألفوا في البلاغة بوضعها هذا الوضع الشائن البغيض ؛ فقد اهتضمها حقها وأجحف بمنزلتها حينما جعلها ذيلا من ذيول البلاغة وذنبا من أذنابها لا تجيء إلا تابعة ؛ ولا تسموا إلى آفاق الذاتية والآصالة " (3)
إن فكرة تحسين الكلام مبثوثة في طيات المصادر النقدية أو البلاغية التي سبقت جهود القزويني إلا أنها نسبت في أصلها أى عموم البلاغة ونسبها السكاكي إلى البلاغة والفصاحة وما سماه بديعا يقول " وإذا تقرر أن البلاغة بمرجعيها وأن الفصاحة بنوعيها مما يكسو الكلام حلة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسن فههنا وجوه مخصوصة كثيرا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام ؛ فلا علينا أن نشير إلى الأعرف منها "
وقد كان البلاغيون يؤكدون جمال المعرض الخارجي للكلام البليغ . فالبلاغة – حسب اعتقاد أبي الهلال العسكري(ت – " كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك ،مع صورة مقبولة ومعرض حسن " (4)
انطلاقا من هذا التصور فإن فكرة الجوهر والعرض في التعبير الأدبي ظلت حاضرة في ذهن البلاغيين وكان لها أثر سيئ على مفهوم البديع خصوصا عند شراح السكاكي أو البلاغة التعليمية بشكل عام ؛ حيث أصبح الكلام الأدبي تعبيرا دالا عن المعنى المقصود، لكنه يكتسي طلاءا خارجيا وزينة عرضية؛ هي( البديع) الذي يعتبر مصدر الحسن؛ ولذلك أعتقد أن السمة المميزة للبديع هي المظهر العرضي .
لم يتنبه الشراح إلى إشكالية الذاتي والعرضي في بنية العبارة الفنية التي تعتبر بنية مركبة ترفض هذا التمييز. ولعل الدافع الرئيس الذي قادهم إلى هذه المفارقة العجيبة؛ هو بحثهم عن إيجاد صيغة مناسبة وتعليمية لتمييز أشكال المحاسن _ التي اصطلحوا عليها بالبديع _ عن علمي (المعاني) و (البيان) مع جهلهم بالبنية المركبة للكلام الأدبي ولغته الفنية، إذ لا يصح _ ولو من منظورهم الخاص_ فصل (المعاني) عن (البيان) و(البديع) . وتبين بعد الدراسة أن ابتداعهم هذا التميز بين العرضي والجوهري في الكلام الأدبي واعتبار (البديع) مرتبطا بالعرض هو حصيلة إرث بلاغي متقدم نشأ تحت تأثير نزعة الفصل بين اللفظ والمعني التي ألقت بظلالها على مختلف أشكال الممارسة النقدية وتنظيراتها؛ بدءا من جهود الجاحظ (ت255ه) .
لقد كرس ابن طباطبا (ت322ه) _ على سبيل المثال _جهوده النظرية لوصف آليات اشتغال الأديب على صناعة الشعر، ولم يتردد في إقحام قضية اللفظ والمعنى ظمن تنظيراته الأساس. لكن وظيفة اللفظ عنده تندرج في إطار الموضوعات العرضية .إد تساهم – حسب اعتقاده – في تحسين المظهرالخارجي للكلام . لذا لم يتخلص من فكاك الأسر الذي فرضته مقولة الجوهر والعرض في العمل الأدبي. و راح يعتبر هذه المقولة منطلق الإبداع في قوله المشهور " إذا أراد الشاعر بناء قصيدة؛ مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، واعد له ما يلبسه اياه من الألفاظ التي تطابقه "
وبهذا تصبح الألفاظ كسوة أو حلية خارجية للكلام الأدبي ؛ و يتم ترسيخ الاعتقاد بأن الإبداع لا يتطلب أكثر من إتقان المعرض الخارجي وتوخي الدقة فيه ؛ وإحكام صنعه من أجل ضمان التأثير في نفس المتلقي فالشاعر – حسب رأي ابن طباطبا كـ"النقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه؛ ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان " (5)
لذلك أصبح التفكير في (البديع( من زاوية اللفظ ومقاربة (البيان) من زاوية المعنى منهجا قارا في البلاغة العربية . فالاشتغال الإبداعي على المعاني يتيح إمكانية المراهنة على الابتكار والخلق ؛ بينما أضحى التركيز على اللفظ يرمي إلى تحقيق ( الزينة ) و( لاستطراف). وبتعبير أدق يتيح إمكانية التصرف في وجوه البديع .
وقبل ذلك بشر ابن رشيق الشراح بأن الفكر البلاغي سيعمد إلى الفصل بمنتهى الحسم بين مجالين " وهميين " مجال دلالي ذاتي يكتسي صفات ذاتية جوهرية ؛ ومجال لفظي بديعي يكتسي صفات عرضية ؛ خصوصا أثناء تمييزه الواضح بين مفهوم: ( الاختراع ) و( التوليد) و( الإبداع ) الذي أضحى مرجعا لكل من رام ضبط هذه المفاهيم أو المصطلحات ، بل خطر لابن رشيق أن لا يكلف الآخرين عناء البحث والفصل بينه هذه المصطلحات ومفاهيمها ؛ فصاغ آراءه وأدلى بتصوراته قائلا : " الفرق بين الاختراع والإبداع ... أن الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قط ، والإبداع إتيان الشاعر باللفظ المستظرف الذي لم تجر العادة بمثله ؛ ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع ....فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ " (6)
ولاشك أن شراح السكاكي قد تبنوا هذا التصور بكامل الإخلاص ؛ وفتحوا المجال للبلاغة التعليمية كي تجد مبررا نقديا يضع البديع موضع الذيل التابع لعلمي المعاني والبيان وتلخص وظيفته الأدبية في تحسين اللفظ باعتباره طلاءا خارجيا أو صباغة مزينة و كسوة جميلة؛ ضاربين- بذلك - صفحا عن مشروع ابن المعتز الذي راهن على إثبات البنية المركبة لمفهوم البديع دلالة وتركيبا وإيقاعا ، أو لفظا ومعنى .
نستنتج في النهاية ما يثيرالغرابة ؛ فإن بعض دعاة التجديد البلاغي من الباحثين المحدثين قد اعترفوا بولائهم لأطروحة الشراح ؛ وتلقفوا آراءهم بكامل الرضى دون أن يتنبهوا لهذا الإشكال الذي أفضى إلى خلل منهجي في الرؤية المتكاملة للبديع التي برهنت عنها تجربة ابن المعتز في كتابه البديع ،وابن أبي الأصبع المصري (ت654ه )في كتابيه (تحرير التحبيرفي الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن) و( بديع القران ) ومن كان يحدو حدوهما في مسار الاشتغال النقدي؛ فهذا مصطفى المراغي(ت 1945ه) قد أدلى بكلام لا تتبين مغزاه إلا بعد وقوفك على مقاصد الشراح من أطروحة البديع وآرائهم حولها . حيث كتب قائلا " المستفاد من علم البديع الحسن العرضي والمستفاد من العلمين السالفين (يقصد علمي المعاني والبيان)الحسن العرضي "(7)
الهوامش:
(1) البديع : 106
(2) الايضاح : 348
(3) البديع في ضوء اساليب القران :13
(4) كتاب الصناعتين : 16.
(5) عيار الشر : 11
(6) العمدة : 1/ 453
(7) علوم البلاغة : 290
عدل سابقا من قبل الدكتور مصطفى البكري في الخميس مايو 14, 2020 11:03 am عدل 4 مرات
