أحبتي كادر واعضاء منتدى القلم للثقافة والفنون
تحية وأشواقا
قد تستغربون من عنوانِ هذه الحلقةِ، (نسمةٌ عليلةٌ من ذكرياتٍ جميلةٍ) ولكن من قضى فترةً قاربت السنةَ بعيداً عن العراقِ الطاهرِ وبغداد الحبيبةِ والعراقيين الاصلاء والأهلِ والأحبابِ، يعصف به الشوقُ ... والشوقُ الصادقُ بركانٌ هادرٌ لا يطفئ نيرانَه ولهيبَه سوى تلك النسماتِ من ذكرياتِ الزمنِ الجميل ...
أحبتي وأنا الآن وقد تجاوزت الثمانين من العمر وفي بلد غريب وحيدا وتحت برنامج علاجي طبي بعيدا عن أهلي وأحبابي وقد من الله علي بأناس طيبين يرعوني رعاية الآخوة الصادقة ورعاية الأبناء لأبيهم مما ساعدتني مواقفهم الإتسانية النبيلة على تحمل وحشة الغربة وتجاوز قلق العلاج الطبي ، وأدعو الله أن يقدرني على رد الجميل لهم ... ومع ذلك تعصف في الروح بين الحين والآخر ذكريات الزمن الجميل وايام الخير وأربعينيات القرن الماضي حيث كانت العائلة العراقية تعيش مكتفية سعيدة، لا هواتف نقالة ولا اجهزة تلفاز ولا مدافئ وأحيانا لا أجهزة راديو ... كانت امسياتنا حلوة ونحن مجتمعون في غرفة حول موقد من الفحم المتقد وعليه دلة القهوة وابريق الشاي(لقوري) في أيام الشتاء أو في فناء الدار مع مراوح الخوص اليدوية (المهافيف) وكان والدي رحمه الله يقرأ لنا من كتب التاريخ ويروي لنا قصصا جميلة من تراثِنا الزاخر بالحكم والمواعظ، والوالدة الحنون تقدم لنا الشاي والقهوة بين الحين والآخر مع لفائف الجبن في رغيف الخبز الحار...
وكان والدي رحمه الله حافظا للشعر وحببه لي وكان يقول الأبوذيه وهي لون من ألوان الشعر الشعبي ولكن ما كان يقوله لا يدونه مما تسبب في ضياعه وما بقىي في ذاكرتي منه إلا القليل ...
وعندما أكملت الدراسة الإعدادية وكانت في حينها خمس سنوات وليس ستة كما هي الآن، ذهبت الى والدي رحمه الله واستأذنته أن أعمل معلما في المدارس الإبتدائية كما كان ممكنا في تلك الفترة، سألني لماذا؟ قلت له لأساعدك لأنك وحيدا، ابتسم رحمه الله وضمني الى صدره وقال لي صباح العيشة مستورة والحمد لله وان كنت تريد مساعدتي حقا فاذهب وأكمل دراستك الجامعية، وكان ذلك حيث يسر لي الله الالنحاق في كلية الهندسة – جامعة بغداد وتخرجت فيها والحمد لله ... ولم تكن الدراسة سهلة ابدا وان جاز التعبير فقد اكملتها ومثلي مثل من يتسلق جبلا بأظافره ...
ومن الطرائف التي مرت بي وأنا اراجع لامتحان مقاومة المواد وكانت الحفلة الشهرية للسيدة أم كلثوم وهي تغرد باغنيتها عبر الراديو (ياللي كان يشجيك أنيني) وأنا من عشاق أغاني السيدة أم كلثوم، فكنت اقرأ للامتحان وأدندن معها، سمعتني الوالدة رحمها الله فجاءت مسرعة وقالت بلهجتها البغدادية، (ولك صباح عندك امتحان وانت تغني مع أم كلثوم) قلت لها اتركيني الآن وحضري لي قدحا من الشاي وسارجع لك غدا بدرجة كاملة، ثم رجعت لها وانا معي 98%، وقلت لها مازحا كان المفروض 100% ولكنك بالأمس قطعت علي انسجامي بالأغنية ...
سبحان الله وكأن التاريخ يعيد نفسه وأذكرعندما أكمل ابني الوحيد دراسته الجامعية الأولية وحصل على البكالوريس وكنت حينها متقاعدا، جاءني يستأذن أن يعمل ليعينني فتذكرت الحادثة مع والدي رحمه الله، فاحتضنته ورويت له تلك الحادثة وقلت له وأنا أقول لك ما قاله لي جدك رحمه الله ان كنت تريد مساعدتي اذهب واكمل دراستك العليا، والحمد لله والتوفيق من الله أكمل الدراسة العليا وحصل على شهادة الدكتوراه في حقل اختصاصه ...
أحبتي وسأذكر لكم الآن بيتين من الأبوذية رواها لي والدي رحمه الله والتي بقيت عالقة في ذهني ولا أدري إن كانت من قوله او من منقوله ...
قال رحمه الله:
دشيلن يا شرعنه والهوالنه (أي ارفع شراع السفينة فالهواء معنا)
على ولف اليحبنا والهوانه (الذي هوانا)
الها حسرات روحي والهاونه (لها أنين)
تشيب الطفل وتوسده المنيه
وقال رحمه الله:
يروحي بيش اسليها كتله ( أي كي تلهو)
عليك دم دمع عيني كتله (العين تبكي دما بدل الدمع)
شبه العيس بالبيدا كتله (قتلها)
العطش ودومن تحمل الماي هيه
وكان رحمه الله يقول لي دائما احفظ هذا البيت من الشعر واعمل به:
تمسك إن ظفرت بذيلِ حرٍ فإن الحرَ في الدنيا قليلُ
وأنا اذكر هذا البيت منذ اربعينات القرن الماضي وأعمل به ولا أدري ماذا سيقول لي الآن لو عرف كيف تغيرت أحوال الناس حيث ضاعت القيم والمثل عند الكثير من البشر إلا من رحم ربي ...
وما زلت وسأبقى متمسكا بهذه الحكمة ولذا تروني متمسكا بكم انتم أحبتي الطيبين الاحرار ...
أستودعكم الله وإلى لقاء قريب إن شاء الله ..
صباح الجميلي