تمهيد
كلما أريدُ أن أكتب أهرعُ إلى أوراقي وقلمي فأتذكرُ الفيلسوفَ الساخرَ برنارد شو عندما سأله أحدُهم (كيف تكتب؟) فأجابه (آخذ ورقةً وقلماً وأكتب) فسأله ثانية (ولكن ماذا تكتب؟) فأجابه (هذه هي المشكلة).. وها أنا أحاولُ أن أكتبَ شيئاً أقدمُ به ما يحتويه هذا الكتاب.. ولكن أحيانا تكون الكلماتُ عصيةً على الرغمِ من ازدحامِ الأفكارِ وأحياناً تنسابُ سهلةً سلسةً يعجزُ القلمُ عن اللحاقِ بها... أنا لست محترفاً ولكني إنسانٌ عاشقٌ لكل ما هو جميل ولا أقصدُ هنا جمالَ الشكلِ بل جمالَ الروحِ ... أحاولُ أن أعبرَ عن مشاعري بكتاباتي نثراً كانت أم شعرا... فالإنسانُ كتلةٌ من المشاعرِ الجياشةِ بحلوِها ومرِها... بلطفِها وحنانِها.. بلؤمِها وقسوتِها... بحبِها وكرهِها وحقدِها... تعتملُ تلك المشاعرُ في النفسِ كموجٍ متلاطمٍ في بحرٍ هائجٍ فتنعكسُ على تصرفاتِ الإنسانِ فتترجمُ الخيرَ والشرَ في النفسِ البشريةِ... إن حياةَ الإنسانِ هي تلك المشاعرُ والأحاسيسُ التي تمثلُ مسيرةَ حياتِه فترى من يمثلُها كلمةً حلوةً شعراً أو نثراً... ومنهم من يترجمُها لحناً جميلاً ينسابُ من رعشةِ وترٍ أو بحةِ نايٍ... ومنهم من يصورُها لوحةً جميلةً فتشاهدُ في كلِ ضربةِ فرشاةٍ ولونٍ وفي كل خطٍ قصةً تكادُ أن تنطقَ لتخبرَك حكايتَها... ومنهُم من يجسدُها تمثالاً أو قطعةً من الفخارِ فتحس بمشاعرِه في كل جزءٍ من قطعتِه الفنيةِ هذه، وإني لأذكرُ يومَ أتت لي نرمينُ الجاف وهي ابنةُ أخٍ عزيزٍ تحملُ بيديها لوحاتِ معرضِها الأول الذي ستَعرِضُه في الكليةِ التي تدرس فيها ودفتراً للمذكراتِ وقالت لي:
( يا عم أريدُك أولَ من يشاهدُ لوحاتي وأولَ من يكتبَ لي)... والحقَ أقولُ رأيتُ تلك اللوحاتِ وكأنها تتكلم وتروي للمشاهدِ قصتَها فكتبت لها في حينِه...
الرسمُ أبياتُ شعرٍ تُليت لي بصمتِ
مشاعرٌ كجمالِ الوردِ ما رسمتِ
جميلة كلُها والأجملُ هو أنتِ
كلُ التهاني لكِ خالصةً وسلمتِ
وكذلك عندما تسمعُ لحناً جميلاً تعيشُه وينقلُك إلى عالمٍ ساحرٍ جميلٍ يؤثرُ فيك فرحاً وطرباً أو ألماً وحزناً... وتحضُرني قصةٌ الأصمعي عندما حضر مجلسَ طربٍ لأحدِ الأمراءِ وقد أخرجَ من جعبتِه كيساً فيه أعوادٌ وأوتارٌ فركبها وأخذ يعزفُ عليها لحناً أضحكهم حتى استلقوا ثم عاد وركبها بطريقةٍ أخرى وعزف عليها فأبكاهم حتى أنهكهم الحزنُ ثم عاد وركبها بطريقةٍ ثالثةٍ وعزف عليها فناموا جميعاً وتركهم نياماً وخرج... أيُ سحرٍ ذلك الذي يؤثرُ هكذا في الإنسانِ بحيثُ ينقلُه من عالمٍ إلى عالمٍ آخر ... وهكذا هي الكلمةُ الطيبةُ الجميلةُ التي تعبرُ عن المشاعرِ في نفسِ كاتبِها فإن وصلت تلك الكلمةُ إلى قلبِ القاريء وضميرِه وأثرت فيه تحقق للكاتبِ أو الشاعرِ هدفُه... فقد أوصل أحاسيسَه إلى قلوبِ الآخرين...
وأعود وأقولُ إني لست محترفاً ولكني عاشقٌ لكل ما هو جميلٌ أحاولُ .. فقط أحاول أن أكتبَ ما أُحسُ به وأشعر... حيث تمر في حياةِ الإنسانِ مواقفٌ وأحداثٌ تتركُ بصمتَها عليه... فمنهم من يستطيعُ أن يُترجِمَها مقالةً أو قطعةً أدبيةً ومنهم من يعبرُ عنها في بيتٍ من الشعرِ... إن كلَ ما موجودٌ في هذا الكتابِ له قصةٌ في حياتي ويمكنُ القولُ أن لكلِ قصةٍ في حياتي قصيدةً أو بيتاً من الشعرِ...
هذا هو الهديل مجموعةٌ شعريةٌ وبالأحرى مجموعةُ أحاسيسَ ومشاعرَ إنسانٍ عَشِقَ الشعرَ وعَشِقَ اللحنَ الجميلَ واللونَ البديعَ وعندما أسمعُ تلك الكلماتِ وذلك اللحنَ تجدني في سكرةٍ من غير خمر...
وسألني سائلٌ لماذا الهديل ؟ وهل يعني هذا اسمٌ لإنسانٍ ؟ ومن هي تلك الأسماءُ التي ورد ذكرُها في الكتاب ؟ وقلت في حينِه ومن هي هند وليلى وسعدى وسلمى ولبنى وعبلةُ وبثينةُ وعزةُ وسعاد؟ تلك الأسماءُ التي تغنى بها الشعراء ... إنها أسماءٌ قد تعني شيئاً وقد لا تعني ... ليس المهمُ لمن هذه الأسماءُ بل المهمُ هو هل وصلت تلك المشاعرُ إلى ضميرِ القاريء والمستمع ... هذا هو المهمُ فكل الأسماءِ هي رمزٌ لحواءَ تلك الإنسانُ الذي أحبُه وأحترمُه وأقدرُه فالمرأةُ في قاموسي – في المفهوم العام وليس الشواذ – هي إنسانٌ يستحقُ كل التقدير والاحترام فهي الأكثرُ صبراً والأكثرُ وفاءً والأكثرُ تحملاً ... وهي أريجُ الحياةِ وعطرُها وبدونِها وإن تَرَ الحياةَ جميلةً فهي أشبهُ بوردةٍ من غيرِ عطرٍ ... فكان لها في كتابي الحيزُ الأكبرُ إن لم يكن كلَ الكتاب ... وإن كان لأي اسمٍ وجوداً أو حقيقةً فهو ملكٌ لصاحبِه...
وهذه الحياةُ جميلة عطوفة معطاءٌ إن عشناها بما يحب اللهُ ويرضاه .. لقد خلقَ اللهُ لنا كلَ هذه النعم لجعل حياتنا سهلةً ممتعةً فلماذا لا نشكرُه ونَحمَدُه ولماذا التشاؤمُ ولماذا الطمعُ وعدمُ القناعةِ ولماذا عدمُ الإخلاصِ وعدمُ النزاهةِ ... ولماذا يلهثُ البعضُ وراءَ الكسبِ الحرامِ وبعد ذلك يترك كل شيء وراءَه ويذهب ليلاقي ربَه خالي الوفاضِ إلا من أعمالِه ... لماذا؟ ... لماذا لا نعيشُ كلنا إخـوةً متحابين ويكونُ لمفهومِ الصداقةِ عندنا مفهومٌ مقدسٌ خالٍ من أي مصلحةٍ ... ولماذا لا يفكرُ شبابنا بالصداقةِ إلا لمصلحةٍ أو منفعةٍ؟ ... وإن كانت بين رجلٍ وامرأةٍ فلا يفكرون إلا بسريرٍ وفراش ... لماذا؟ ... لماذا تُشوه الصداقةُ بهذا الشكلِ؟ ولماذا يُشوه الحبُ بهذا الشكلِ؟ ولماذا تُمتهنُ المرأةُ عندما نفكر بها بهذا الشكلِ... لماذا؟ إن الشاعر يقول:
(ولا خيرَ في الدنيا إذا لم يكن بها صديقٌ صدوقٌ صادقُ العهدِ منصفُ)
ولكن من بينِ كلِ من نعرف من هو الصديقُ في خِضَمِ هذه الحياةِ التي أحكمتها المصالحُ والأطماعُ؟
(فانه ليس من الصعبِ أن تجدَ صديقاً ولكن من الصعبِ أن تجدَ من يستحقُ الصداقة)... والذي يمكن أن تعتبرَهُ توأمَ الروحِ ... وإن وجدتَ ذلك فعليك التمسكُ به وعدمُ أضاعَتِه ويحضُرُني بيتٌ من الشعرِ يقول:
(تمسك إن ظفرتَ بذيلِ حرٍ فإن الحرَ في الدنيا قليلُ)
وإني لأذكر بيتاً من الشعرِ لأبي العتاهية رواه للخليفةِ المأمون نديمُه مخارق ويقول:
(وإني لمحتاجٌ إلى ظلِ صاحبٍ يروقُ ويصفو إن كدرتُ عليه)
وبعد أن سمِعهُ الخليفةُ المأمون ثلاثَ مراتٍ قال لنديمِه:
(يا مخارق أُعطيك الخلافةَ والملكَ واعطني مثل هذا الصاحب) .... والحقَ الحقَ أقولُ إني ولمثلِ هذا الصديقِ ليُسعِدُني أن اجعلَ له من جسدي جسراً ليعبرَ عليه ...
ولنعد إلى الهديلِ ... وكيفَ أبصرت هذه المجموعةُ من المشاعرِ والأحاسيسِ النورَ وكيف ضمتهم دفتا هذا الكتاب ... فأن الفضلَ كلُ الفضلِ يعودُ إلى أخي العزيز وأستاذي الفاضل الشاعر عبد الغني الحبوبي حيث كان له الأثرُ الكبير في التوجيه والترشـيد والتشـجيع ولا يزال... وإني لأذكرُ يومَ ذهبتُ إليه ببعضِ المحاولاتِ راجياً ترشـيدَها فقال لي في حيـنِه (إني لأرى شاعريةً مرهفةً وأنا بانتظار أن أرى ديواناً من الشـعر لك قريبا) ثم أهداني ديوان المرحوم الشـاعر الكبير محمد سعيـد الحبوبي ووجهني إلى كتبِ العروضِ فكان لتشـجيعِه الأثرُ الكبيرُ في هذه المسيرة... ولا أنسى أخي الحبيب الفنان الكبير المرحوم أحمد شعيب إبراهيم حيث كنا نتسامر سوية بما أكتب ... وكذلك أخي وصديقي الشاعر صبري الحمداني حيث كنا ولا نزال نتسامر ونراجع ما أكتب وما يكتب .... وأخي الشـاعر مخلص الحديثي وشعره الجميل الذي كان الغذاءَ الروحي لهذه المشاعر ... وأخي العزيز الأستاذ فرحان فتح الله والأخت الفاضلة فوزية العزاوي ومراجعاتهم اللغوية، وابنتي نرمين الجاف وكذلك الفنانتين المبدعتين يسرى العبادي ويقين الدليمي ولوحاتهم التعبيرية التي أهدوها لهذا الكتاب، أقول لهم جميعا شكرا وألف شكر ...
ومن الله التوفيق...
صباح الجميلي
حزيران 2005
عدل سابقا من قبل صباح الجميلي في السبت أغسطس 13, 2011 8:26 pm عدل 1 مرات