من كتابات زمن الحصار الظالم الذي كان ضحيته الشعب العراقي نتيجة تضارب السياسات والمصالح وأطماع بعض دول الجوار في بلد الحضارات وغدرهم وغدر الأشقاء... ونتيجة لما أصاب العراق من ظلم نرى ما حل بمن غدروه والأيام القادمة ستظهر لنا ما سيصيب الطامعون بهذا البلد العريق ... إن العراق كطائر العنقاء الذي ينتفض حيا من بين الرماد
إنه باقِ وهم الزائلون
إنه باقِ وهم الزائلون
كان يسير بخطى ثابتة مرفوع الرأس عالي الهمة يضرب الأرض بقدميه بنشاط وحيوية وكأنه في الثلاثين من عمره رغم أنه قد تجاوز الستين ، وتراه كأنه يسابق السنين التي سبقته. هذه هي رياضته اليومية ، حسب نصيحة الأطباء ، فإن المشي هو أحسن رياضة للذين في عمره ، وفي كل يوم من مسيرته هذه تمر أمامه صور وحوادث ويسمع قصصا وأحاديث بعضها طبيعية مفرحة تبشر بان الدنيا لا تزال بخير وبعضها شاذة بالنسبة إليه ومحزنة تجعله يحس أنه غريب بين أهله وأنه يعيش في عصر غير عصره ... قهذا سائق يتمهل في سيره مؤشرا للسيارات خلفه أن تقف حيث أمامه امرأة عجوز تعبر الشارع ، وذلك آخر يتسابق بين أطفال بحقائبهم المدرسية يعبرون من منطقة العبورعلى الرغم من أن إشارة المرور الحمراء أمامه، وهذا بائع يسعى جاهدا أن يزن بالقسطاس لزبون له ، وذلك آخر لديه أوزان يبيع بها وأخرى يشتري بها وثالثة يقدمها لمسؤلي الرقابة للفحص والتدقيق، وهذا عامل في محطة خدمية يستقبلك بتحية جميلة وابتسامة أجمل ، ويقوم بواجبه على أكمل وجه ولا يتقاضى منك سوى حقه وذاك آخر يقف متفرجا متجهما وانت تقوم بواجبه ثم يزمجر في بوجهك مطالبا بالإكرامية ، وهذا تاجر أمامه بضاعة جيدة وسعرها مناسب بالنسبة للسوق وبربحه المنصف ، وآخر أمامه بضاعة مغشوشة فاسدة وكتاب يقسم به بأغلظ الأيمان بأنها بضاعة جيدة وأنه يبيعها بكلفتها وهو يعلم أنه يكذب ويعلم إننا نعلم ذلك، سبحان الله له في خلقه شؤون ..
ومن هذه الصور الكثير الكثير تمر أمامه ويتذكر أيامه التي مرت وكيف كان الخطأ فيها شاذا ... واليوم كبف أصبح الحق فيها شاذا ، إنها الضمائر فليس من رقيب على الإنسان بعد الله إلا ضميره فإن مات الضمير مات صاحبه وإن كان حيا ..
أخذ صوته يعلو وهو يدمدم مع نفسه ، هل أصبحت هذه الدنيا غابة يفترس القوي فيها الضعيف ، ولكن مهلا حتى وحوش الغابة لا تقتل ولا تفترس لهوا ولعبا أو كرها وحقدا ، بل لحماية صغارها أو لتؤمن لهم الطعام، هل حقا أصبحت ضمائر وحوش الغابة حية تحس وضمائر البعض من البشر ميتة بلا إحساس ..إن الدنيا تقوم ولا تقعد لإنقاذ طفلة مريضة بحاجة لقلب أو لكلية أو لمعالجة فيل مريض في حديقة الحيوان ، ولكن ما من عمل جاد لإنقاذ الألوف من الأطفال الذين يحصدهم موت الحصار في بلد كل ذنبه أنه قال لا لمن أراد أن يستعبده ويستعبد أهله وأشقائه...
والأشقاء في سبات يغطون أو في شبه يقضة يمسحون عيونهم التي يغالبها النعاس يتفرجون وأشدهم يقضة ووطنية هو الذي يشير من بعيد بعدم عدالة هذا الوضع ويطلب حلا ، والحل أولا وآخرا بأيديهم ، ولو أرادوا لرفع الحصار يوم فرض ، ولكن هل يغضبون أصدقائهم ومستعبديهم ؟ ولماذا يغضبونهم ويد العدوان التي تضرب هذا البلد تنطلق من أراضيهم ..
إنه يدمدم مع نفسه وصوته يرتفع أعلى وأعلى ربما يظنه من يراه وهو يكلم نفسه أنه مجنون ، نعم كيف لا وهو يسمع بإنسان من بلد معاد يتحرك ضميره الإنساني ليرفض الحصار ويلعن من فرضه ويتحرك من عاصمة العدوان بحافلة يجول بها في بلدان ومدن ليصل ههنا منددا بالحصار وبمن فرضه ... والأشقاء في سباتهم ينعمون وكأن هذا البلد لم يفتح صدره يوما ليحميهم كلما تعرضوا لعدوان .. وكأنه لم يقتطع من قوته ليعطيهم كلما تعرضوا لأزمة ، وكأنه لم يسرقوه يوم كان يقف أبنائه درعا يذود عنهم مشغولا بالدفاع عن الأرض والعرض ، وهم يسرفون ما يسرقون على موائد الخمر والميسر في دور الرذيلة في بلد العدوان ، أهكذا الغدر والنكران ، أهي العروبة والإسلام ...
إن صوته أصبح أعلى من ذي قبل ، حتى أصبح مسموعا لمن حوله ، وهو يقول ، ولكن العروبة باقية والإسلام الذي اهتدت به أمم وشعوب باق وهذا البلد المحاصر باق ، نعم باق بحضارته بعروبته بإنسانيته بإسلامه باق ... باق وصامد ... صامد .. وأنتم أيها النائمون زائلون أنتم ومستعبدوكم .. زائلون ... زائلون ... فانتبه لنفسه فإذا هو أمام داره وحوله أهل بيته وجيرانه وهم يرددون معه ... صدقت صدقت إن العراق باق وهم الزائلون
صباح الجميلي