رواية الهمس الجميل
( الحالة الاولى )
الطبعة ألاولى
2013
العنوان: الهمس الجميل
المؤلف: وليد زيدان أللهيبي
الايداع القانوني: 2012 _ MO2711
ردمك: 978 _9954 _ 9220 _ 3 _ 3
الطبعة الاولى: 2013
الطبع: youleb services
الهاتف 0537681228
الفاكس 0537681065
الإهداء
* إلى جميع العشاق
* إلى عشيرتي التي أنقذتني من بحر الضياع
* إلى السائرين بدرب الحب دون خداع
* إلى النائمين على وسادة البعد والأوجاع
وليد أللهيبي
( 1 )
بين أحضان الطبيعة الجميلة في مدينة بغداد ولد وميض في خمسينيات القرن الماضي في بيت متوسط الحال وسط العاصمة في منطقة الاعظمية حيث دجلة الخالد وكورنيشها الرائع يتنفس هوائها العذب وينعم بحدائقها الجميلة.
كان والده مقاولا ينفذ أعمال مد شبكة المجاري وتعبيد الطرق وأعمال البناء للمشاريع العامة وكان دخله جيدا بحيث يغطي نفقات العائلة ويزيد أيضا وكان والده حريصا جدا يسعى لبناء دور للعائلة في مناطق بغداد وحقق ذلك فعلا بمجهوده وعمله المتقن ونال رضا الدولة عنه كما نال رضا عماله والناس المحيطين به.
ويستمر يعمل في مجال المقاولات بإخلاص وتفاني حيث كان يخشى الله ويرغب أن ينجز عمله بما يرضيه وتمر السنين ويبلغ وميض السابعة من عمره وهو لا يعي حقيقة الأمور بعد لكنه تفتحت عينيه على أمور ملموسة سفرة الطعام عامرة بما لذة وطاب من الطعام وملاعق الفضة يتناول فيها الطعام هو لا يعرف عنها شيئا سوى ما يسمعه من العائلة والده ووالدته وهو لا يعرف الفرق بين ملاعق الفضة أو غيرها المصنوعة من المعدن الرخيص المهم عنده أنها أداة يتناول فيها طعامه.
كان يسمع حديث والديه كثيرا عن العمل والإخلاص فيه وعن همة العمال العالية بإنجاز الأعمال الموكلة أليهم وبدأت المفردات تنهال عليه دون أن يدرك معانيها لكنه أيقن أنها أشياء حسنة جميلة لأنه لاحظ علامات الرضا على وجوه والديه ويستمر وميض برحلة البحث عن معاني هذه الكلمات التي تتردد بشكل يومي تقريبا على مسامعه هو ألان بالصف الأول الابتدائي وبدأ يعي جزءا من هذه المفردات كونه طالبا في مدرسة نجيب باشا النموذجية وكانت من المدارس الراقية آنذاك حيث أن جميع الطلبة يرتدون الزى الموحد وهو عبارة عن بنطلون رصاصي وقميص ابيض وسترة زرقاء يوجد بالجانب الأيسر العلوي منها شعار مطرز جميل يمثل رمزا لهذه المدرسة.
وحين ينجز فروضه المدرسية يخرج إلى الشارع ليلعب مع الأطفال ببراءة واضحة من الجميع فلا فرق عندهم بين غني أو فقير ما يجمعهم هو عالم الطفولة ببراءته وما يشدهم هو اللعب لا غير فترى الصراخ يتعالى تارة ويهدأ تارة أخرى فيمتلئ الشارع بالضجيج بأصوات الأطفال ثم ينتهي الضجيج حين يهدئون وهذا الأمر لن ولم يزعج الجيران.
كيف لا واللاعبون هم فلذات أكبادهم وكأن جميع الجيران عائلة واحدة بسبب التقارب والألفة بينهم ، وحين يتفرق الأطفال كلا إلى بيته تبدأ رحلة أخرى من اللعب والضجيج داخل البيوت فتراهم لا يستقرون بمكان وكأنهم طيورا محلقة في السماء تتحرك بمختلف الاتجاهات وترتفع وتنخفض كيفما تشاء ووقت تشاء، تراهم يسبحون فوق الأرض بمنتهى الرقة وقفزاتهم تتيه في لمح البصر وأصواتهم ترتفع أو تنخفض حدتها حسب ظروف اللعبة وانفعالات الطفولة وقد يسقط الطفل مرة أو مرات لكنه ينهض من جديد مصحوبا ببكاء خفيف الحدة ثم يزاول اللعب بلا هوادة.
( 2 )
عند المساء حيث تجتمع العائلة في الدار يلهون بجهاز التلفاز ويشاهدون ما يعرض وتبدأ الأحاديث تنساب من الأفواه سلسة رقيقة في حوار لطيف حول مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تخص العائلة أو السياسية التي تشغل الناس بأحداثها فالأرض العربية محتلة والشعب العربي يعيش الذل بسبب ضعف الحكومات وعمالة الساسة التي يسطرون على مقاليد الأمور.
كان وميض بذكائه المعروف وقدرته على الحفظ السريع يتابع النقاش بجد وذاكرته تسجل الأحداث ولا يفوته شيء أبدا وتتوالى على مسامعه مفردات جديدة أخرى فلسطين المحتلة والكيان الصهيوني والاسرائيلين ذاكرته تسجل ذلك لكنه لا يعرف حقيقة هذه المفردات ويبدأ وميض بفطنته يسأل والده
ـ وميض: بابا شنو يعني فلسطين المحتلة
ـ الوالد: يعني الأرض التي احتلها الغير
ـ وميض: أو شنو الكيان الصهيوني
ـ الوالد: يعني من احتلوا فلسطين وأقاموا بها بوجه غير شرعي
ـ وميض: أو شنو الاسرائيلين
ـ الوالد: من يسعون لبناء دولة في فلسطين وهي ليس لهم وهؤلاء هم الصهاينة.
يا ولدي لقد احتلت الأرض العربية في فلسطين عام 1948 م من قبل منضمات صهيونية وبدعم بريطانيا حيث منحهم بلفور وعدا بإنشاء دولة لهم في فلسطين .
يومئ وميض برأسه وكأنه استوعب حجم القضية أو وصلت إليه المعاني بشكل جيد، ترى ماذا سيقول غدا لأقرانه من الطلبة عن فلسطين وهل سيستوعبون ما يقول؟. وهل لهم القدرة على الفهم بمثل قدرته.
يخيم الليل ويشعر وميض بالنعاس فيذهب إلى غرفته محاولا النوم وما أن ألقى بجسده على الفراش واسترخى قليلا حتى بدأت أقوال أبيه تراوده وكأن شريط سينمائي يمر أمام ناظريه أ هكذا تحتل الأرض العربية دون رادع؟. فيقلق على مستقبله ومستقبل الجيل الذي هو فيه ويتقلب في فراشه وقد فارقه النوم وكأن هموم الدنيا قد زاحمت عقله الصغير وكأن الأحزان قد داهمت قلبه دون أستاذان ويستمر يتقلب في فراشه فيعود اليه النعاس من جديد وبين القلق والنعاس بدأت رموش عينيه بالسقوط إلى الأسفل بغفوة يعقبها نوم هانئ حتى الصباح.
وحين دخل والده ووالدته غرفتهما واستلقيا على الفراش بعد أن خلعت الزوجة ملابسها وارتدت ملابس النوم وعطرت جسدها حدثها زوجها وهي تضع رأسها على كتفه حدثها عن وميض، ماذا به، انه يسأل أسئلة اكبر من مستوى عقله، وما الضير من ذلك، أني أخشى عليه من أن تضيع كلماته بين هواجس الطفولة وبين دروس المدرسة فلم يعد قادرا على الاستيعاب.
وتبدأ الزوجة بمداعبة زوجها وتلامس بأطراف أناملها شعره ثم وجنتيه وتمرر أصابعها على شفتيه فيقبلها الزوج ويضمها بين ذراعيه وتلتحم مشاعرهما كما التحم جسديهما العاريين ليعيشا لذة الحب وارتعاش الشوق، وحين أتما ما بدأه بدأ العرق يتصبب منهما وهما يشعران بحر شديد، ثم سلما أمرهما إلى النوم، عند الصباح نهض الزوج كعادته ودخل الحمام ليأخذ دوشا باردا ينشط جسده ورغوة الصابون قد غطت وجهه وما هي ألا لحظات حتى دخلت عليه زوجته حاملة الملابس الداخلية لزوجها كي يغير ما يرتدي.
ثم دخلت المطبخ لتعد له إفطار الصباح وقدح الشاي، وما أن أتم استحمامه خرج وهو يلف جسده بالرداء فوجد إفطاره وقد وضع على الطاولة وابتسامة زوجته الجميلة فتحت نفسه للأكل وبعد أن أتم طعامه وشرابه ارتدى ملابسه البغدادية وهو يعتمر الجراوية زي أيام زمان، توجه إلى عمله وكله نشاط وحيوية وهو يواجه يوم عمل جديد ينجز خلاله المخطط له من تنفيذ بموجب الجدول الزمني كي لا يدركه الوقت أنجاز يومي بمنتهى الدقة والمتانة وهذا ديدنه دائما.
وهناك في بيته كانت زوجته التي هي أساسا ربة بيت قد استعدت لأعمالها المنزلية وقبل ذلك هيأت ولدها وميض كي يذهب إلى مدرسته بعد أن تناول طعامه وأثناء خروجه من البيت ودعته أمه بابتسامة رقيقة وهي توصيه بلا شغب يا ولدي ، نعم يا أمي.
وأثناء سيره في شوارع منطقته التقى بزميله سعيد ومشيا سويا إلى حيث مدرستهم وهما يتبادلان الحديث
ـ وميض: ا تعرف يا سعيد الأرض المحتلة
ـ سعيد: لا يا صاحبي
ـ وميض: أنها فلسطين يا صديقي وقد احتلها الصهاينة
لم يعد سعيد يستوعب ما قاله صديقه فهذه مفردات جديدة عليه فلم يعرها أبدا اهتمامه وحين دخلا المدرسة بدأت رحلة اللعب في ساحتها وكأن الطلبة طيور محلقة في السماء لا يحدها حدود المرح والركض ولم يمنعهم منه ألا جرس الدرس الأول حين يقرع، وحين قرع الجرس صرخ الأطفال بأعلى صوتهم يا حزنا على مفارقة اللعب، وما أن دخلا الصف وجلسوا على مقاعدهم وقف المراقب وهو احد الطلاب أمامهم وخلفه السبورة وحين رأى المعلمة قادمة وهمَت بالدخول نادى بأعلى صوته قيام، عندها نهض الطلاب احتراما للمعلمة، بعدها قالت المعلمة جلوس فجلس الجميع في مقاعدهم وبدأ الدرس الأول وساد الصمت الصف فلا صوت للطلبة والصوت الوحيد هو للمعلمة تشرح الدرس ثم توجه الأسئلة للطلبة فنسمع لهم صوت.
هكذا يستمر اليوم الدراسي بين الطلبة في مدرستهم وحين انتهاء الدوام الرسمي يخرج الطلبة فتسمع لهم ضجيجا ما بعده ضجيج وكأن الطيور قد خرجت من أوكارها منطلقة في الفضاء ترفرف بأجنحتها كي تحلق عاليا.
وفي طريق العودة إلى البيت لا تسمع من وميض ألا همسا مع صديقه سعيد كي لا يسمع المستطرقين حديثه والذي يعتقد انه شيء خاص لا يجوز للآخرين سماعه.
اليوم سأذهب مع والدي إلى الخياط، وماذا تفعل أنت هناك، والدي سيفصل لي قاط ( بدله ) جديد عند صديقه الخياط، أين خياطكم، يقول والدي في شارع النهر، يصمت سعد حيرانا من هذا الاسم وهو يحدث نفسه وهل للنهر شارع؟ لست ادري.
دخل سعيد إلى دارهم وعلامات الحيرة واضحة على وجهه، سألته أمه ماذا بك يا ولدي، لقد سمعت من وميض كلاما لم افهمه، ماذا قال يا ولدي، قال سأذهب مع والدي إلى شارع النهر ليخيط لي قاطا ( بدله )، وما الغرابة بذلك يا ولدي، وهل للنهر شارع يا أمي، ضحكت ألام بملئ فمها وهي تقول يا ولدي انه شارع معبد بالإسفلت وهو محاذي لنهر دجلة لذلك سموه بشارع النهر ويوجد فيه محلات للبزازين وللخياطين ومحلات بيع الملابس والسجاد انه شارع تجاري يا ولدي.
هز سعيد رأسه بعد أن عرف حقيقة الشارع لكنه شعر بخجل كبير مع نفسه كيف يلبس وميض هذا الزي وأنا لا، ثم يجيب على تساؤوله بنفسه طبعا والده مقاول وأنا ابن من يكسب رزقه من معمله المتواضع.
( 3 )
وتبدأ رحلة جديدة داخل البيت رحلة تحضير الواجبات المدرسية وكتابة الفروض المطلوبة وذلك بعد تناول طعام الغذاء فيكون واجب الأم هو متابعة واجبات ولدها وإعانته بفهم المادة المدرسية وشرحها له وتسهل عليه كتابة واجباته وتعد له جدولا للكتابة والقراءة واللعب بموجب توقيت دقيق بالساعات والدقائق كي تنظم حياته وكي يتفوق بدراسته فسلاحه بالحياة شهادته وثقافته لا أميته وجهله.
يلتزم وميض بالجدول المعد له ويناقش والدته بالمواد التي لا يفهمها فتعينه على الفهم والاستيعاب بعد أن تشرح له الدرس وتبسط له المعاني.
جاء والده وهو يسأل هل أتم وميض فروضه المدرسية فتجيبه زوجته نعم أتمها بإتقان، إذن ألبسيه ملابسه كي نذهب إلى شارع النهر فقد وعدته أن أخيط له بدله.
ويأخذ الأب ولده إلى حيث شارع النهر ومحل الخياطة فتؤخذ له القياسات وهو مذهول مما يرى أ كل هذا لخياطة بدله واحد، فيرى الوالد علامات الحيرة على ولده فيقول له هذه هي أسرار المهنة يا ولدي فلا شيء ينجز بلا قياس، ولكنه عمل متعب يا أبي، وهل جلب الطعام والرزق الحلال سهل يا ولدي علينا أن نتعب من اجل عائلاتنا وأولادنا فلا شيء ينمو ويكبر من فراغ.
أيقن وميض كم هي كبيرة مسؤولية الآباء في توفير الطعام والدواء وباقي مستلزمات الحياة للعائلة وهو في طريق العودة مع والده إلى بيته كان يحلم باليوم الذي سيرتدي فيه بدلته الجديدة، كما وحاور نفسه بخصوص أصدقائه هل ابلغهم بما فعلنا اليوم ولم يتردد بالجواب نعم سأقص عليهم حكاية شارع النهر والبدله، وصلا إلى بيتهم وهو مسرورا ويكاد يطير فرحا، أماه لقد اخذ الخياط قياساتي وسينجز ألبدله قريبا، مبروك يا ولدي تلبسها بالمسرات دائما، ولم يمضي إلا أيام معدودات فيبلغه والده هيئ نفسك يا وميض، إلى أين يا والدي، إلى الخياط يا بني، وهل أنجز ألبدله، لا يا ولدي.
يصمت وميض قليلا ثم حدث نفسه أذن لماذا نذهب أليه
ـ الوالد: اليوم سنأخذ براوة
ـ وميض: براوة شنو يعني براوة
ـ الوالد: يا ولدي تعني أن تلبس ألبدله وهي مخاطه بالإبرة والخيط لا بالماكينة لغرض ضبط القياسات وتصحيحها إذا تطلب الأمر ذلك
ـ وميض: ( وهو يهز رأسه ) نعم والدي فهمت ألان
ويذهب مسرعا لارتداء ملابسه وهو يحدث نفسه اليوم عرفت مفردة أخرى من مفردات الخياطة .. كم عملهم متعب وشاق، وما أن أتم لبسه وأنهى استعداده ذهب مع والده إلى حيث الخياط وهناك تم ضبط ألبدله بشكلها النهائي وابلغ الخياط وميض يومان وتصبح بدلتك جاهزة وبدأت رحلة أخرى من الانتظار يومان فترة طويلة على وميض وهو يعد ساعاتها بل دقائقها فمتى ستنتهي عنده رحلة العد هذه .. يومان ثقيلان لن يمر وميض بمثلهما سابقا وحين اخبره والده بأنه سيذهب اليوم لجلب بدلته قال لوالده أ أتي معك يا أبي، لا لن احتاجك اليوم أنا سأجلبها لك يا ولدي.
وتمر السويعات ثقيلات على وميض شعر أنها أثقل من اليومين الماضيين وبدأ يراقب الطريق متى يصل والدي يا ترى، فيأتيه صوت والدته وميض... وميض أين أنت يا ولدي، نعم يا أماه أنا عند الباب الخارجي، فتضحك والدته بصوت عالي وهي تقول ستلبسها اليوم يا ولدي.
فرح وميض حين سمع حديث أمه وصرخ بأعلى صوته لقد جاء... لقد جاء أبي، وينطلق مسرعا لاستلام بدلته، دخل غرفته ولبس ألبدله فرحا مسرورا وحين خرج إلى والديه بمنتهى القيافة سارع والده ليعدل له ربطة العنق، وما كان من والدته إلا أن تطلق هلهولة طويلة أعقبتها ضحكة وهي تقول يوم زواجك اوليدي.
يخرج وميض من داره إلى الشارع مزهوا بما يرتدي مما لفت نظر أصدقائه أليه وقد تجمعوا حوله يشاهدون عن قرب ما يلبس وكثرة أسئلتهم عليه حتى ضاق صدره ثم أيقن أن أصدقائه محقون بذلك بما يطرحون عليه من أسئلة عندها ابتسم ابتسامة لطيفة واخبرهم حقيقة ألبدله وكيف تم اختيارها وفصالها عند الخياط من قبل والده.
ـ سعيد: أي خياط
ـ وميض: صديق والدي في شارع النهر
ـ طاهر : كم ثمنها
ـ وميض: لست ادري
ـ رياض: بالعافية تلبسها
ـ وميض: شكرا لكم جميعا
تفرقوا جميعا إلى بيوتهم، عندها خلع وميض بدلته وتفرغ لأداء فروضه.
دخل سعيد دارهم حائرا لا يعرف كيف يبدأ الحديث مع والدته، ولكن بفطنتها لاحظت تلك الحيرة فقالت ما بك يا ولدي، لا شيء سوى إن وميض قد ارتدى بدلته الجديدة اليوم، لا تستغرب ذلك يا ولدي فهو من عائلة ميسورة ونحن يا بني بإمكاننا أن نشتري لك واحدة بشرط أن تنجح، صحيح يا أمي، نعم يا بني، فرح سعيد كثيرا واجتهد بدراسته كي ينال جائزته.
أما طاهر فقد دخل داره وهو يحدث والدته عن ألبدله فقالت له يا ولدي أنت يتيم ونحن عائلة كبيرة نعمل من اجل لقمة العيش فلا تنظر لمن هم أغنى منا، اعرف ذلك لكني رغبت بواحدة لي، ومن أين نوفرها لك اجتهد وانجح وحين تكبر ويصبح لك شأن اشتري لنفسك بدله، طأطأ رأسه إلى الأرض وهو يقول نعم يا أماه.
دخل رياض بيته فرحا مسرورا ليس على عادته، سأله والده وكانت والدته تسمع الحديث ما الذي يفرحك يا ولدي، وميض يا أبي، ما به، لقد ارتدى بدلته الجديدة اليوم وهنأته بها، حسنا فعلت يا ولدي وبورك فيك فنحن عائلة غنية وتجارتي بالسجاد لها سوقها وأنت ليس بحاجة إلى بدله، اعرف ذلك يا والدي فأنت لم تقصر معي أبدا.
وتستمر الأيام الدراسية برتابتها وينتهي عام دراسي ويأتي آخر ويمر أيضا سريعا وإذا وميض يبلغ من العمر الثالثة عشر من عمره وهو ألان طالبا في الصف الأول المتوسط كان ذلك عام 1969 وقد بدأ مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها هنا في متوسطة المثنى للبنين يرى لأول مرة مقرا للإتحاد الوطني لطلبة العراق وهو لا يعرف طبيعة عمله، ويستمر العام الدراسي ويكون وميض صداقات اكبر ويستمر بالمثابرة والحرص على دروسه ليحقق النجاح، الجو في المتوسطة له نكهة خاصة لم يألفها وميض سابقا مثل المختبرات للفيزياء والكيمياء والأحياء فبعد الدراسة وإلقاء المحاضرة من قبل المدرس يأخذهم إلى المختبر المختص ويضع الشرائح تحت المجهر فيقوم جميع الطلبة بمشاهدة هذه الشريحة بكامل تفاصيلها والمدرس المعني بالمادة يشرح للطلاب ويجيب على تساؤلاتهم.
أما في مادة الرسم فقد تلقى الطلبة دروسا عن خلط الألوان ومزجها ودروسا عن النسبة والتناسب للشكل المطلوب رسمه وقد فوجئ أيضا بأن في المدرسة مرسم خاص وقد اصطحبهم مدرس الرسم إليه ليرسموا هناك بعد أن قص عليهم حكاية من الأدب العالمي كان ماكبث بطلها وترك الطلبة يتخيلون أحداث القصة ويرسمون لوحة من وجهة نظرهم.
ليس هذا فحسب بل أخذهم مدرس الرسم والذي أطلق عليه الطلبة اسم ماكبث فيما بينهم تيمنا بالقصة أخذهم إلى المرسم ووضع طاولة صغيرة في المنتصف ووضع عليها جمجمة عظمية وطلب من الجميع رسم هذه الجمجمة كلا من زاويته.
فوجئ وميض بكل هذه الأمور التي لم يألفها سابقا وأيقن الدراسة هنا جدية وما عليه ألا الاجتهاد ليحقق النجاح، ويمر العام الدراسي وينجح وميض إلى الصف الثاني متوسط وبسب ظروف خاصة انتقل إلى متوسطة التحرير ليواصل رحلة الدراسة هناك ورحلة تكوين صداقات جديدة في بداية العام الدراسي تعرف على زملاء جدد وكان صديقه المقرب أليه طالب يجلس بجانبه وبينهم أحاديث ومودة وتبادل بالمواد وفي درس التربية الإسلامية طلب المدرس من جميع الطلبة أخراج كتاب التربية الإسلامية، اخرج جميع الطلبة كتبهم ألا زميله الذي بجانبه
ـ وميض: اخرج كتابك
ـ زميله:ليس لي كتاب
ـ وميض: لماذا لم تستلم
ـ زميله: أجابه بصوت خافت خجلا أنا يهودي ومعفي من هذه المادة
أيقن وميض أن زميله عراقي يهودي باق في العراق لم يغادره، وينتهي اليوم الدراسي فيذهب وميض إلى بيته حائرا لا يعرف ما يقول، ما بك يا ولدي، أبي لقد فوجئت بان صديقي الذي بجانبي يهودي، وكيف عرفت ذلك، لم يستلم كتاب التربية الإسلامية يا والدي،
ضحك والده وهو يقول نعم يا ولدي هناك قلة من اليهود لا زالوا في العراق لن يغادروه وهم غير مشمولين بدراسة ديننا فلا تستغرب ولا تتعجب
( 4 )
وتمر الأيام مسرعة وعجلة الزمن تدور بلا توقف كأنها تلتهم العمر التهاما، وميض لا زال يواصل دراسته بتفاني واجتهاد ملحوظين ووالديه يلاحظان ذلك وقرروا أن يمنحوه مكافئة على ذلك، فما هي هذه المكافئة..مبلغ مالي فرح به وميض واعتبره كنزا لا يقدر بثمن استحقه من والديه لاجتهاده مما دعاه إلى الحرص أكثر ليحقق النجاح.
وفي يوما من أيام الدراسة وأثناء عودته وجد زميليه طاهر وسعيد في شارع المغرب وهما يتشاجران مع شخص أخر لا يعرفه، تقدم باتجاههم كان الشخص الأخر اكبر منهم عمرا ويفوقهم طولا، أطلق عليهم وميض التحية وردوا عليه بالمثل، خير خو ماكو شي، هذا اعتدى علينا، ليش تعتدي عليهم، لم يعجب هذا الشخص حديث وميض وبادر ومسك ربطة العنق التي يلبسها وهذه إهانة لا تغتفر، قال وميض ارفع يدك عن ربطة عنقي، رفع الشخص يده مسرعا ثم استدرك وإذا أعدتُ الكره ومسكتها، ستجد مني ما لا يرضيك.
مد الشخص يده إلى ربطة العنق وامسكها ثانية وقد فاجئه وميض بصفعة قوية على خده، عندها بدأت المشاجرة بأكبر مما كانت وتدخل الرجال المستطرقين في الشارع وفضوا النزاع.
وتمضي شهور الدراسة سريعة ويستعد وميض وزملائه لأداء الامتحانات النهائية وهم أكثر جدية مما مضى قراءة مستمرة ومتابعة مكثفة للمنهج المقرر وما أن انتهت فترة الامتحانات وجاءت العطلة الصيفية حتى باشر الجميع بممارسة هواياتهم وكان الإجماع بينهم الرياضة فمن كرة القدم إلى ألعاب الساحة والميدان التي كانوا يمارسونها وسط البستان المجاور لدورهم وذلك بعد أن هيئوا الساحة بمعاولهم، تراهم متعبين من اللعب والعرق تصبب من أجسادهم فهذا سقط هنا واتسخت ملابسه وذاك تعرض لإصابة أدمت ساقه لكنهم جميعا فرحين يغمرهم سرور عارم لا فرق عندهم من يفوز المهم قضاء الوقت وممارسة الرياضة التي يحبون.
أيام قليلة وستظهر نتائج الامتحانات الجميع قلق رغم أنهم أدوا الامتحانات بكفاءة هكذا يتصورون ويبقى القلق مشروعا لحين موعد استلام النتائج، وميض دائم الابتسامة ظاهريا وكأن الموضوع لا يهمه ولكن حقيقة الأمر انه قلق جدا من الداخل وربما أكثر من الجميع، عادوا جميعا إلى منازلهم واخذوا حماما باردا ليزيحوا عنهم تراب وعرق الملعب وحين استراحوا قليلا خرجوا إلى الشارع وكأنهم على موعد
ـ وميض: ها شباب والتقينا من جديد
ـ طاهر: ( مبتسما ) لا نبغي فراق
ـ سعيد: وهل لنا غير بعض
ضحك الجميع وساروا في الشارع الذي يسوده الصمت ألا من حديث الهمس الذي فيه يتحدثون.
ومرت يومان وجاء الخبر اليقين ستوزع النتائج اليوم وتناقل الخبر سريعا أليهم لبسوا ملابسهم وتوجهوا إلى منطقة الوزيرية حيث مدرستهم وهناك وجدوا زملاء الدراسة مجتمعين تبادلوا التحايا وملئ الضجيج فضاء المدرسة وزادة الحركة في الشارع المؤدي أليها، ما هي ألا لحظات وخرج معاون المدير حاملا بيديه كارتات الدرجات وبدأ بقراءة الأسماء اسما بعد اسم هذا ناجح وآخر مكمل وذاك راسب والطلبة قد قبضت أنفاسهم وضاقت صدورهم والسيد المعاون يستمر بقراءة الأسماء تباعا وبعد الانتهاء من توزيعها سار الأصدقاء الثلاثة وميض، طاهر، سعيد فرحين بالنجاح الذين حققوه وما هي ألا شهور قليلة ويصبحوا في الصف الثالث المتوسط وهذا يتطلب جهدا كبيرا لان في نهاية العام الدراسي يصار إلى امتحان وزاري مركزي ( بكلوريا ).
لا زالوا يسيرون مسرعين إلى بيوتهم كي ينالوا جوائزهم التي ينتظرون والتي وعدوا فيها من قبل ذويهم، وهناك عوائلهم يساورها القلق على أبنائهم فهم ينتظرون قدومهم ليعرفوا حقيقة الأمر، لازال الثلاثة يسيرون باتجاه دورهم وشعروا لأول مرة كم هي طويلة المسافة وحين اقتربوا تدريجيا شاهدهم الجيران وسألوهم عن النتائج فأجابوهم النجاح طبعا، ألف مبروك ولدي.
لقد وصلوا إلى مفترق الطرق فأخذ طاهر الجانب الأيسر ودخل شارعهم في حين استمر سعيد إلى الإمام ليصل داره أما وميض فأخذ الجانب الأيمن ودخل شارعهم وهنا ركض وميض باتجاه دارهم ليزف البشرى لوالدته ، نجحت يا أمي نجحت، احتضنته أمه وقبلته وهي تقول مبروك أوليدي هديتك تستحقه من أبوك، وبين دموع الفرح وابتسامات النجاح دخل والد وميض الدار ليطمأن على مستقبل ولده بعد أن أتعبه الانتظار فغادر عمله مسرعا إلى بيته وحين دخل فوجئ بالدموع والابتسامات فأيقن أن وميض قد نجح فأحتضن ولده مسرورا لقد نلت بجدارة هدية النجاح وهي عبارة عن مبلغ من المال وضعته في قاصتك.
ـ الوالد: هذا المبلغ هدية نجاحك كما وعدناك
ـ وميض: شكرا يا والدي كنت على يقين بأني سأحصل عليه لأنك إذا أوعدت أوفيت
ـ الوالد: ( مبتسما ) تصرف به كما تشاء وفق شروط المنطق والعقل
ـ وميض: أن شاء الله يا والدي
ثم سأله والده عن أصدقائه طاهر وسعيد، لقد نجحوا يا والدي، أذن خذ هذا المبلغ الإضافي واذهب معهم إلى السينما وتناولوا وجبة طعام وان جميع مصاريفهم هذا اليوم عليك يا وميض، حسنا يا والدي.
انطلق وميض إلى أصدقائه ليبلغهم بالنبأ السعيد، لقد أعطاني والدي المال وطلب مني أخذكم إلى السينما وتناول الطعام على نفقتي أكراما لنجاحكم، أ تتحدث الصدق يا وميض أم تمزح معنا، أ تحدث الصدق يا أصدقائي، إذن إلى سينما النصر اليوم فيها فلم جيد كما اخبرني بعض الأصدقاء ، حسنا سنذهب ونشاهده، انطلقت ضحكاتهم المدوية في سماء الحي فرحا بالدعوة وقد اتفقوا على التوقيتات لغرض الذهاب اليوم لمشاهدة هذا الفلم.
انشغلوا باقي أيام العطلة باللعب وممارسة الرياضة وحين اقترب موعد بداية العام الدراسي تغيرت الأجواء قليلا حيث بدأت التحضيرات لاستقبال العام الدراسي الجديد من شراء الملابس والأحذية وبعض القرطاسية والحقائب، أيام معدودة ويجتمع شمل الأحبة من الطلبة بين جدران المدرسة وساحاتها .. فهل ستعود الحركة داخل المدرسة كحركة خلية النحل عمل دؤوب ومنظم أم سينشغل الطلبة بأمور لا تجدي نفعا.
( 5 )
مع بداية العام الدراسي الجديد ذهب الأصدقاء الثلاثة إلى مدرستهم متوسطة التحرير للبنين وهناك التقوا بباقي الأصدقاء، تجمع الطلبة في ساحة المدرسة وصرخاتهم تملئ الفضاء إلى حين جاء معاون المدرسة حاملا أوراقه فعم الصمت الساحة وبدأ الأستاذ يقرأ الأسماء حسب الصفوف وما أن أتم القراءة طلب من الجميع التوجه إلى قاعات الدرس، توجه طاهر وسعيد ووميض إلى الصف الثالث (ب) وهناك التقوا بأصدقاء العام الماضي وتمر الأيام مسرعة بل تمضي الشهور أسرع مما يتوقعه الطلبة والمادة الدراسية تتراكم عليهم وهي تحتاج إلى متابعة وتركيز حين قراءتها والطلبة منهمكون بمواصلة التدريس وحفظ المنهاج المقرر لكي يتمكنوا من الإجابة عند الامتحان النصف سنوي أيام معدودة والامتحانات على الأبواب حينها لا ينفع الندم.
واصل الثلاثة دراستهم وحفظ المنهج المقرر واستعدوا للامتحان وحين حان موعد الجد ودخلوا قاعات الامتحان بدأت قلوبهم تخفق وازدادت دقات قلوبهم، وزعت أسئلة اليوم الأول من الامتحان وبعد ألقاء نظرة سريعة عليها اطمئن وميض وبدأت دقات قلبه تنتظم من جديد لان الأسئلة التي قرأها سهلة وحلها ممكن لأنه قد استعد لها وقام بقراءتها قبل الدخول إلى الامتحان، هو لم يعلم ما حال صاحبيه، استمر بكتابة الأجوبة على دفتر الامتحان هذا سؤالا بعد سؤال وما أن أنجز ذلك وأتم الإجابة سلمَ دفتره وخرج من القاعة فرحا وهو ينتظر أصدقائه وما هي ألا لحظات حتى خرجا فرحين مستبشرين لأنهما أجابا على الأسئلة كافة، ساروا سيرا على الأقدام باتجاه بيوتهم ليستعدوا لامتحانات يوم غدا، استمروا على هذا الحال طيلة فترة الامتحانات وما أن انتهوا من ذلك بدأت العطلة الربيعية وبدأ معها اللعب وممارسة الرياضة يوميا.
وتمضي الأيام الخمسة عشر وهي أيام العطلة الربيعية وفي أخر يوم لها بدأ وميض يهيئ ملابسه وكتبه استعداد للدوام الدراسي غدا، وفي الصباح تناول فطوره وارتدى ملابسه وحمل حقيبته وذهب إلى دار صديقه سعيد ليذهبا سويا إلى المتوسطة وسارا في الشارع المعروف باسم شارع المعتصم ( والمعروف بشارع الدهان ) سارا باتجاه الوزيرية حيث مدرستهم وقبل نهاية الشارع لاحظ سعيدا صديقة أخته تسير في نفس الشارع بالاتجاه المعاكس لكي تصل إلى دار أهله وتأخذ أخته معها إلى متوسطة الحريري للبنات لاحظ ذلك وان هناك شاب يضايق الفتاة وهي تبتعد عنه وكلما ابتعدت ذهب هو باتجاهها حتى حصر الفتاة بينه وبين جدار احد البيوت وهي مرتبكة دون أن يلمسها ما كان من سعيد ألا أن ذهب باتجاه هذا الشاب مهرولا ثم أعقبه وميض راكضا وما أن وصلا وإذا بالشاب أطول منهما وهو رياضي وذو عضلات مفتولة فاشتبكا معه بالأيدي ضربا وتبادلا اللكمات بقبضات أيديهم، أما الفتاة فقد سارت مسرعة إلى البيت المقصود وأبلغت صديقتها بأن أخيها وصديقه قد تعاركا مع رجلا حاول الاعتداء عليّ ، المعركة مستمرة بين الثلاثة وأصابوا المعتدي بالأذى ولم يكتفي سعيد ووميض بذلك بل اركبوه معهم بسيارة أجرة إلى مركز شرطة الوزيرية القريب من مدرستهم علما إن العاملين بهذا المركز من أصدقائهم وجيرانهم وهناك نهض ضابط الشرطة الخفر من نومه وذلك قبل الساعة الثامنة وحين عرف الموضوع أهان هذا الرجل ووبخه وأمر بإيداعه التوقيف كما وابلغ سعيد ووميض هل الفتاة المعنية بالحادث تشهد بذلك ابلغوه نعم.
وفجأة يظهر أمام الجميع والد سعيد حيث عرف بالحادث من صديقة ابنته فجاء سريعا إلى المركز ليحتوي القضية قبل أن تأخذ مجراها القانوني
ـ والد سعيد: السلام عليكم
ـ الضابط: وعليكم السلام
ـ والد سعيد: ابني هؤلاء شباب وطائشون ارجوا أن لا تثبت دعوى ضد هذا الرجل
ـ الرجل: عمو اتعاركو ويايّ وحتى أفلوس التكسي اخذوهه مني
ـ الضابط: ( مبتسما ) حتى بعد لا تتحرش ببنات الناس
صمت الرجل دون كلام ونظر ضابط الشرطة إلى سعيد وميض هل تطلبون أقامة الدعوى، أجاباه لا ثم نظر إلى الشاب المفتول العضلات هل تقيم دعوى ضدهم فأجاب لا لا قالها سريعا لكي يتخلص من هذه الورطة.
غادر الجميع مركز الشرطة وفي الشارع قام والد سعيد بإعطاء الرجل خمسة دنانير بدلا من أجرة التاكسي البالغة دينارين ثم نظر إلى ولده سعيد وقال ابن الكلب أتريد أتأذي الولد بالمركز.
عاد سعيد ووميض إلى مدرستهم والتي بدئوا يومهم الأول بمشكلة حقيقة دفاعا عن ابنة المنطقة، تجمع الطلاب حولهم ليعرفوا حقيقة الأمر فقصوا عليهم الحكاية وكيف نكلوا بهذا الشاب جزاء فعلته، فرح جميع الطلبة حين سمعوا هذه الحكاية وأكدوا على الحرص الشديد على بنات المنطقة والحفاظ عليهنّ، واثنوا على دور سعيد ووميض وشكروهم على موقفهم النبيل هذا، دخل الجميع إلى قاعات الدرس وجميع الطلبة لديها هاجس واحد وتساؤل واحد وهو متى توزع النتائج وكلما سألوا مدرسا أجابهم غدا أو بعد غد سيقوم المعاون بالتوزيع.
وفي صباح اليوم الثاني ذهب الطلبة إلى مدرستهم كالمعتاد وهناك بدأ المعاون بتوزيع نتائج الامتحانات على الطلبة نعم لقد نجح سعيد وطه أما وميض فلم يحالفه الحظ بالنجاح حيث أكمل بدرسين هما الانكليزي والفيزياء، تألم وميض لذلك وفي نفس الوقت فرح لزميليه بالنجاح وقد واساه أصدقاءه وطلبوا منه التعويض لاحق.
( 6 )
لم يعرف أصدقاء وميض سر فشله هذا لكن صديقيه سعيد وطاهر يعرفان ذلك وبدءا يحثانه على مواصلة القراءة وان لا يدع الظروف الصحية لوالده أن تكون حجر عثرة في طريقه، فما هي هذه الظروف التي أربكت وميض دراسيا تعرض والده إلى الآلام كبيرة في جنبه الأيسر وبعد مراجعة الطبيب المختص في مستشفى الخيال الأهلي في منطقتهم نجيب باشا وبعد الفحوصات والأشعة قرر الطبيب إجراء عملية لوالده كون الحالب ملتوي وهو مسبب لهذه الآلام، رقد والده في المستشفى وأجريت العملية اللازمة وحين تعافى خرج من المستشفى وسدد أجور العملية البالغ 180 دينارا وهو مبلغ كبير شعر والد وميض بارتياح في الأيام الأولى بعد العملية لكن بعدها بدأت الآلام تتزايد في بطنه كما وان فضلات الطعام لا تخرج أسرعوا به إلى المستشفى والى طبيبه في مستشفى الخيال وبعد الفحص واخذ الصور الإشعاعية قرر أن يدخل المستشفى لأجراء عملية ثانية.
ـ والد وميض: لماذا يا دكتور
ـ الطبيب: إثناء معالجتي للحالب جرحت القالون النازل بالشفرة خطئا وقد عالجته أثناء العملية
ـ والد وميض: وألان ماذا حدث
ـ الطبيب: التهاب حاد في القالون سبب انسداده ويجب أجراء العملية فورا
دخل المستشفى وأجريت له العملية وتم تحويل خروج الفضلات من الجانب الأيسر من بطنه حيث تجمع بأكياس نايلون طبية لهذا الغرض مربوطة إلى بطنه بأشرطة خاصة، وتم تسديد مبلغ العملية البالغ 200 دينارا وتتحسن صحته كثيرا لكنه لا يستطيع الخروج من الدار بسبب هذه الأكياس وعدم سيطرته على الغازات الخارجة منه مما أصابته بنوع من الخجل فقرر البقاء بالمنزل ألا أن أصدقائه وأقاربه الحوا عليه بالخروج ويعود لمجالستهم في مكتب المقاولات في شارع عمر بن عبد العزيز قرب مكتبة الصباح في الاعظمية ونزولا عند رغبتهم لبى هذا النداء.
وتمر الأشهر القليلة وهو يراجع المستشفى المذكور ويقرر الدكتور أجراء عملية ثالثة لإعادة الأمور إلى طبيعتها ويغلق الفتحة المؤقتة في الجانب الأيسر رقد في المستشفى وأجريت العملية بعد أكمال كل الفحوصات وحين خرج من غرفة العمليات وكان أولادة وزوجته وأقربائه ينتظرون ذلك وحين القوا به على السرير فحصت زوجته جانبه الأيسر وإذا بالفتحة ما زالت قائمة أخبرت الجميع بذلك مما دعا بولده الكبير مخلد وخاله الذهاب إلى غرفة الدكتور لاستفهام الأمر
ـ الخال: دكتور اشو بعدها ألفتحه ليش
ـ الطبيب: إني أسف كنت اعتقدت أن الورم قد شفي لكني وجدته باقيا
ـ الخال: والفحوصات التي أجريتها
ـ الطبيب: أسف حصل خطأ
سمع مخلد حوارهما ولم يستطيع مسك أعصابه فقام بسب الطبيب ثم حمل الكرسي ليضربه لولا تدخل خاله السريع واخرج مخلد من غرفة الطبيب وبعد التأم الجرح وخروجه من المستشفى تم دفع تكاليف العملية والبالغ 150 دينارا في حين بقى والده أشهر أخرى وانتكس من جديد صحيا ووافاه الأجل هذه الظروف أجبرت وميض على تدهور وضعه الدراسي وانشغل بمعيشة العائلة وإدارة شؤونها هو وأخيه مخلد ، اجتمعت الظروف السيئة على وميض واستمر يعاني منها طويلا وحين دخل الامتحان الوزاري ( البكالوريا ) مع أصدقائه نجحوا هم ورسب هو ليعيد السنة من جديد حيث فارق صديقيه في المتوسطة لأنهم ذهبوا إلى الإعدادية.
( 7 )
لم يكن فشله الدراسي السابق إلا محطة على طريق مثابرته على طريق النجاح ،إصراره على أن يبني لنفسه شيء يفتخر به هو وعائلته مستقبلا مهما تكون الظروف، واصل دراسته مساءا وعمله نهارا ليعيل العائلة واستجمع كل قواه وسخر وقته بشكل يؤمن له ما يبغي إليه وتمضي الشهور سريعة ويدخل الامتحان الوزاري ولينجح في الدور الثاني بعد أن أكمل بدرس اللغة الانكليزية، كان نجاحه هذا يشكل حجر زاوية في طريق نجاحاته المستقبلية هكذا اعتقد وميض.
تنبئ له الأستاذ عمر مدرس اللغة العربية مستقبلا في مجال الكتابات السياسية وابلغه ذلك علانية أمام جميع الطلاب وذلك على اثر ما كتبه وميض في مادة الإنشاء حيث استعرض فيه الجانب الوطني والجانب القومي والجانب العالمي وهو يتحدث عن دور الشعوب في بناء الأوطان والدفاع عنها أيام المحن والحروب.
كان لهذا الحدث الكبير دورا مهما في حياة وميض رافقه سنين طويلة من الكتابة مستقبلا، لم يكن متابعة دراسته في الإعدادية أمرا يسيرا سهلا عليه فالظروف المحيطة به صعبة جدا ومع ذلك واصل دراسته ليضمن مستقبلا فيها وواصل عمله ليضمن لعائلته رزقا حلالا طيبا .
وشجعاه على ذلك صديقيه الوفيين سعيد وطاهر ، ويستمر متنقلا من الرابع الإعدادي إلى الخامس الإعدادي بين نجاح أحيانا ورسوب أحيانا، لكنه لم ييأس ويواصل الدراسة ويواصل العمل متنقلا بين دوائر الدولة المختلفة يعمل بعقود حتى العام الدراسي 1978 ـ 1979 عام دراسته في الصف السادس العلمي، هنا قرر التفرغ للدراسة باعتبار إن المرحلة مهمة وفاصلة لأنه من خلال هذا العام المصيري سيحدد مستقبله أما أن ينجح ويدخل الجامعة أو أن يرسب في الامتحان الوزاري ويلتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية، هو أمام مفترق طرق أسهلهما صعب عليه، في هذا العام تخلى عن عمله في مطار بغداد الدولي ليكرس وقته للدراسة ويتفرغ لها تماما .
ـ سعيد: يا صاحبي أراك لم تذهب إلى المطار
ـ وميض: لقد تركت العمل لأتفرغ إلى الدراسة
ـ سعيد : حسنا فعلت
ثم يأتي صديقه طاهر ويعلم بالخبر من صديقيه، ومعيشة العائلة، سأتدبر الأمر، كيف، سنقنن من المصاريف ولم ننفق من المال إلا للضروريات من راتب أخي مخلد.
لكن وميض مبتلى بمرض الكتابة والقلم لا يفارقه أبدا فهل سيترك الكتابة أيضا ليتفرغ للدراسة فقط؟.
سؤال يحتاج إلى جواب، ينهمك وميض لقراءة الكتب المدرسية كي يستعد للامتحان النهائي ولكن شوقه للكتابة لن يدعه يتوقف فتراه يكتب غزلياته باستمرار وسياسياته أيضا والتي استنزفت وقت مهم في حياته كان المفروض أن يخصص هذا الوقت للدراسة لا غير.
وتمضي الشهور سريعة هي الأخرى ويجتاز الامتحانات المدرسية بنجاح ويؤهله ذلك للمشاركة في الامتحان الوزاري لطلبة الاعداديات، فرح وميض وعمت الفرحة بيته وأصدقائه ما هي إلا أيام ويبدأ الامتحان الوزاري ويقرر مستقبل وميض بين نقيضين.
( 8 )
ينشغل وميض بترتيب حياته ويقسم وقته بين الكتابة هوايته المفضلة وبين الدراسة مع فسحة من الوقت للتنزه مع أصحابه والترويح عن نفسه ومشاهدة الأفلام السينمائية في صالات العرض ( السينمات ) في بغداد شارع السعدون.
ـ طاهر: نحن ألان في الكليات يا وميض وأنت أمام مرحلة حرجة تحدد مستقبلك
ـ وميض: نعم فأنتم سبقتموني في الدخول إلى الجامعات
ـ طاهر: عليك الاستعداد للدراسة وترك الراحة وأرجو أن لا تنشغل معنا بالترويح عن نفسك
نصيحة قدمها صديقه فهل يتعظ وميض ويخصص كل وقته للدراسة، لم يكن وميض بهذا المستوى من الحرص بل استمر يكتب ويكتب واستمر بالتنزه مع أصدقائه مع هامش من الزمن حدده للقراءة، ويأتي اليوم الحاسم وهو أول أيام الامتحانات الوزارية لكلا المرحلتين المتوسطة والإعدادية بين يوم وأخر وينشغل وميض بالامتحانات وهو يعيش حالة من الهلع والخوف والترقب، أسئلة سهلة وأخرى صعبة والذكي هو من يجيب عليها ليضمن النجاح، عائلته تحثه على الاستمرار بالقراءة ليضمن النجاح وأصدقائه يوجهوه بنفس الاتجاه ووميض يسمع من هنا ومن هناك ويحاول التركيز بقراءته ومتابعة كافة المواد الدراسية لكن المشكلة التي تواجهه هي إن جميع محتويات الكتب من مواضيع هي مشمولة بالامتحانات في حين هو في مدرسته لم يكملوا شرح جميع المواضيع وهذا ترك على عاتقه البحث والقراءة لفهم المادة الغير مدروسة في الاعداديه، وتمضي أيام الامتحانات ويبدأ الترقب، متى تعلن النتائج حالة من القلق يعيشها الطلبة وعوائلهم، الجميع ينتظر والجميع أعصابه متعبه.
وتبدأ لجان التصحيح بمراكزها لتصحح دفاتر الامتحانات ورفع النتائج النهائية إلى وزارة التربية كي تعلن النتائج بشكل موحد لجميع المحافظات، أيام معدودة من العمل الدؤوب لهذه اللجان بعدها بأيام أعلنت نتائج المرحلة المتوسطة وساد القلق مرة أخرى لطلبة الاعداية وعوائلهم غدا أو بعد غد تعلن النتائج.
وجاء يوم الفصل لينهي القلق عند الجميع أعلنت نتائج المرحلة الإعدادية بالصحف ووزعت النتائج في الاعداديات وسار وميض إلى حيث اعداديته وهناك عرف النتيجة الرسوب، أمرا صعبا عليه سيودع أيام الدراسة ويلتحق بالخدمة العسكرية لقد انتهى مستقبله الدراسي ورغم حزنه الشديد وصبره العالي نزلت دموعه على خديه، وحين وصل داره حاولت والدته وباقي عائلته التخفيف عنه لأنه بذل جهدا أثناء الامتحانات
ـ والدته: ولا يهمك اوليدي أنت سويت العليك
ـ وميض: ( والدموع تجري ) يا أمي أنها العسكرية في هذا الظرف الصعب من الحياة
ـ والدته: الله موجود ابني
ويسود الصمت وتنتهي مرحلة الدراسة في حياة وميض وهو ألان يتهيأ لمرحلة الخدمة العسكرية الإلزامية بعد شهور قليلة .
عدل سابقا من قبل Admin في السبت فبراير 27, 2016 8:23 am عدل 1 مرات