في مركز الشرطة التي أقامت فيه الشكوى على زوجها تم إرسال الأوراق إلى القاضي واصدر أمرا بإحضاره وكذلك طالب بتقرير الطبي ليعرف مدى سوء حالتها، تم الاتصال معها هاتفيا من قبل ضابط الشرطة وطلب منها الحضور وجلب تقرير المستشفى، توجهت إلى هناك برفقة صديقتها ابنة الجيران وقدمت أوراقها إليه فأرفقها مع ملف الشكوى وطمأنها بأنهم أرسلوا قوة من الشرطة لجلب زوجها إلى المركز ثم عرضه على قاضي التحقيق.
وما هي إلا دقائق حتى ادخلوا زوجها على الضابط وتم تدوين إفادته الابتدائية ثم رحلوه إلى القاضي والذي اصدر أمرا بتوقيفه ثلاثة أيام على ذمة التحقيق، أعادوه إلى مركز الشرطة وأودعه سجن المركز وطلبوا منها المغادرة لحين إتمام الإجراءات القانونية، غادرت فرحة واعتبرت هذا اليوم بداية لطريق إذلاله واسترداد حقوقها كاملة منه بقوة القانون.
وفي الليل بدأ زوجها القلق وتساوره الهموم ثم بدأت عليه علامات التوتر والرعشة وحركات لا يقوم بها إلا المدمنين فماذا سيفعل؟. لا شيء لديه يتناوله هنا وانتهت ليلته هكذا حتى الصباح الباكر ومع بداية الدوام الرسمي جاء ضباط المركز لأداء واجباتهم اليومية وبعد نصف ساعة جاء ضابط أخر يعمل في مديرية مكافحة المخدرات جاء لزيارة صديقه هنا في المركز وأثناء مروره من أمام السجن توقف قليلا ونظر إلى المودعين فيه وهز رأسه ثم توجه إلى صديقه وبعد أداء السلام والجلوس والضيافة
ـ احمد: لديك سجين شاهدته أثناء مروري وهذا موضوع تحت مراقبتنا منذ فترة لكونه يعمل بتهريب المخدرات
ـ عادل: من هذا .. أ تقصد الذي لديه نوبة صرع
ـ احمد: نعم هو
ـ عادل: موقوف ثلاثة أيام على ذمة التحقيق لاعتدائه على زوجته
اتصل احمد برئيس دائرته وشرح له الموقف والتمس منه أن يعمل على إطلاق سراحه اليوم وبكفالة كي يتمكن احمد من الاستمرار بمتابعته ورصد حركاته، طمأنه رئيسه، وأغلق الهاتف ثم اتصل بالمراجع شارحا لهم أبعاد القضية التي يعملون عليها وابلغوه خيرا بأن الأمر سينتهي اليوم سريعا.
اتصلوا بالسيد وزير الداخلية وشرحوا له الموقف مفصلا فأصدر أوامره بتسيير أوراقه إلى القاضي فورا ليتخذ الإجراءات القانونية اللازمة.
سيرت أوراقه وتم عرضه على القاضي واطلع على الأوراق والتقرير الطبي وبما أن المشتكية أخرجت من المستشفى بعد إجراء اللازم فقد اصدر القاضي أطلاق سراحه بكفالة، أعادوه إلى المركز واتصل بأحد أصدقاءه وتم كفالته وإطلاق سراحه فورا.
علمت زوجته بالخبر، إصابتها نوبة من الانفعال والعصبية واستغربت سرعة الانجاز وكيف أطلق سراحه وما كان من الضابط إلا أن هدأ من روعها وتحدث معها مطمأنا إياها بأن القانون سيأخذ مجراه كاملا وستحصلين على ما تريدين بأسرع مما كنت تعتقدين، كيف ذلك، تساءلت، لا تتعجلي الأمور اليوم سر وغدا تكشف الحقائق أنا متعاطف مع قضيتك فثقي بيّ، خرجت وهي غير مقتنعة بما سمعت وتوجهت إلى بيت أبيها غير راضية، دخلت البيت مكتئبة منزعجة وانفجرت بالبكاء، ما بكِ يا ابنتي، لقد أخرجوه من السجن يا أمي، لماذا، لا ادري.
ويتدخل والدها بالحديث يا ابنتي إجراءات القانون واضحة أنتِ لم ترقدي في المستشفى والقانون بهذه الحالة يجيز للقاضي أطلاق سراحه بكفالة، ولكن ألا يكملوا الثلاثة أيام، وان أكملوها سيخرج أيضا فلا تتعجلي الأمور أن طريق القانون طويل يا ابنتي.
ـ هويدا: لكن الضابط طمأنني بقرب اخذي لحقوقي كاملة وبأسرع مما أتصور
ـ والدها: كيف ذلك يا ابنتي
ـ هويدا: لا ادري لكني شعرت من قلقه وحديثه معي إن في الموضوع سرا وان هناك أمور اجهلها ربما ستحدث
ـ والدها: إلى ذلك اليوم يا ابنتي سنصبر
خرج زوجها من المركز فرحا وكان رجال مكافحة المخدرات يرصدون تحركه سرا، وعند باب المركز الخارجي كان صديقه الذي كفله بالانتظار مد يده في جيبه وأعطاه لفافة صغيرة جدا، فتحها وتناول ما فيها بعدها استقر حاله وعاد إلى طبيعته واتفق مع صديقه على جلسة سمر في نفس الملهى الذي يرتادوه.
جاء الليل وخرج من شقته والرجال يتابعوه دون أن يعلم ركب سيارة الأجرة وطلب من سائقها أن ينقله إلى الملهى وهو لا يعي حقيقة هذه السيارة التي أعدت له مسبقا من مديرية مكافحة المخدرات، وصل إلى الملهى وسدد له الأجور، جلس على طاولته المنزوية بركن معتم وكان صديقه بانتظاره ولم يكونا يعلمان بأن لاقطة صوت قد زرعت أسفل الطاولة وان من يجلس أمامهم والذي يتظاهر بالسكرِ هو ضابط من المكافحة، تحدث إليه صديقه هنا في الملهى يوجد احد زعمائنا يرصد تحركاتك وسيخرج قبلنا بقليل وسنلتقي به خارجا كل ما عليك ألان أن تتناول مشروبك ولا تتعجل فلدينا من الوقت الكثير، لماذا هو هنا اليوم، عندنا عملية كبيرة سنقوم بها غدا وهي تسليم البضاعة إلى تجار آخرين وستتم عملية التسليم غدا صباحا، ماذا قلت صباحا، نعم لقد تم ترتيب الأمر ونسقنا مع احد عناصرنا وهو صاحب مدخر أدوية وابلغوني أن أعطيك تعليمات العملية كي تهيئ نفسك في الصباح، وماذا بعد، ستدخل سيارة نقل الأدوية والتي فيها شحنتنا موضوعة في علبة كارتونية مع علب الأدوية هذه وسترافق أنت سيارة الحمولة وهناك ستجد زعمائنا جالسين عند صاحب المدخر وبعد إنزال البضاعة ستخرج سيارة الحمولة وأنت تبقى بالقرب من بضاعتنا وحين يحين وقت التسليم سيأتي التجار بسيارة واحدة حسب الاتفاق لاستلام البضاعة مع علب من الأدوية، والمبالغ من سيستلمها، سيأتي زعمائنا المتواجدين في الداخل لاستلامها وتسليم البضاعة واجبك محدد وأرجو أن لا ترتكب حماقة.
تحدثوا بوضوح وهم لا يعون إن هناك في احد غرف الملهى يتواجد ضباط مكافحة المخدرات وتم تسجيل حوارهم كاملا وسيعرض على الجهات المختصة فورا، وبعد حفلة المشروبات الروحية ورقص الماجنات خرج احد زعمائهم متوجها إلى خارج الملهى حيث يركن سيارته بعدها خرج الاثنين وذهبا باتجاهه، مد يده في جيبه وأعطاهم مظروفا وهو يقول فيه كل التعليمات اللازمة ابتداء من مكان تحرك سيارة الأدوية إلى التسليم أقرئها جيدا واعمل بموجبها، نعم سيدي، ثم مد يده ثانية وأعطاه مبلغا من المال وقال له تصرف به هذه مكافئة خروجك من السجن ثم انطلق بسيارته.
غادره صديقه إلى حيث بيته وطلب منه النوم ليتهيأ ليوم غد، افترقا على أمل اللقاء صباحا ودخل كل واحد منهم بيته، قام زوجها بالاتصال بأحد بنات الهوى وبائعات الأجساد ومارس معها علاقة حميمة ثم أعطاها النقود وطلب منها المغادرة، لماذا ألا أكمل سهرتي معك حتى الصباح، لا غدا لدي عمل مهم ويجب أن أنام لأنهض وكلي نشاط لأدائه، طيب وقد خرجت من شقته، اخذ حماما ثم نام على سريره وفي الصباح توجه إلى حيث يجب أن يكون وركب سيارة نقل الأدوية وتوجه إلى مكان التسليم منفذا كل التعليمات.
كان ضباط مكافحة المخدرات قد ابلغوا الجهات المعنية وهيئوا غرفة العمليات من كبار الضباط ووضعوا الخطط اللازمة لاعتقال الجميع وركزوا على غلق كل المنافذ المؤدية إلى مكان المدخر وذلك بعد دخول التجار كما وزعوا في البنايات المجاورة رجال الأمن وما أن جاءوا بالبضاعة وأفرغوها وخروج السيارة من المدخر تعقبتها سيارتين بهدوء وفي مكان محدد تم القبض على سائقها بعد أن افتعلوا حادث تصادم وهناك تم التحقيق معه.
وحين جاء التجار ودخلوا المدخر مطمأنين لاستلام البضاعة خرج إليهم زعماء التهريب مرحبين بوصولهم وتم عرض البضاعة عليهم واستلامها بعد تسليمهم المبلغ بالدولار كل ذلك تم أمام أنظار ضباط مكافحة المخدرات حيث زرعوا كاميراتهم سرا في المدخر، وحين حاولوا الخروج بعد فتح البوابة تفاجئ الجميع بعدد كبير من رجال الأمن الذين دخلوا بأسلحتهم واعتقلوا جميع التجار وما أن شاهد زعماء التهريب هذا الوضع حالوا الهروب وقد سحب احدهم مسدسه وهو يركض داخل المدخر ليبحث له عن مخرج، تبعه مجموعة من رجال الأمن فأطلق عليه رصاصاته فأصاب ضابطا بمقتل وبادله الباقين الرصاص وقتلوه فورا أما الباقين من زعماء التهريب فقد تم القبض عليهم جميعا وعلى أفراد العصابة.
بدأ التحقيق معهم وعرض عليهم التسجيل الصوتي في الملهى كما وعرض عليهم التسجيل بالصوت والصور المتحركة في المدخر إضافة إلى المخدرات المضبوطة والمبالغ النقدية بالعملة الصعبة، لا مجال للإنكار فانهاروا واعترفوا وصدقت إفاداتهم قضائيا ليأخذ القانون مجراه واستمر التحقيق لمعرفة باقي الأطراف وبمصدر التمويل وطرق إدخال المخدرات كما وأعلن في التلفاز في نشرة الأخبار المسائية خبر اعتقال العصابة مرفقا بصورهم وأسمائهم.
( 29 )
شاهدت هويدا ووالدها ووالدتها هذا الخبر ففرحوا كثيرا عندها أيقنت إن ما قاله الضابط لها في مركز الشرطة كان حقيقة وليس تطيب خواطر وفي صباح اليوم الثاني ذهبت إلى المركز لتنهي إجراءات قضيتها بما يضمن حقوقها، قد جئتِ باكرا يا هويدا، ليس باكرا فالوقت ما زال الثامنة والنصف صباحا، ابتسم الضابط اقصد مباشرة بعد سماعك نبأ الاعتقال وقبل اصدرا الأحكام عليهم، ابتسمت هويدا أريد أن أكمل الإجراءات وعلى عجالة، لا يمكنك ذلك فستخسرين جزءا من حقوقكِ.
اصبري ألان وسأتصل بكِ هاتفيا وسنرتب لكي الإجراءات ونسهلها لتضمني كامل الحقوق، عادت إلى بيتها مسرورة من قرب نيلها حريتها وما هي إلا أيام معدودة وتنطلق حرة في ارض الله الواسعة، وصلت بيتها وتفاجئ والديها من سرعة العودة وهي مسرورة
ـ والدها: عدت مسرورة وبسرعة
ـ هويدا: كيف لا اُسر يا والدي وسأنال حريتي
ـ والدتها: وبهذه السرعة
ـ هويدا: لا أبدا فقط طمأنني الضابط بأن إجراءات الشكوى ستحتاج إلى وقت أخر بسيط ثم تحسم وأنال كامل حقوقي أي بعد صدور قرارات الحكم على هذه العصابة.
والى ذلك اليوم سأبقى بانتظار مكالمته الهاتفية فقد أوعدني بذلك، لقد وقع من كان يسمى زوجي بشر أعماله وسينال عقابه الذي يستحق هو وزمرته اللعينة من تجار السموم التي يعيثون في الأرض فسادا.
هويدا بدأت تعد الأيام حتى شعرت أن الزمن توقف أو إن ساعاته أصبحت ثقيلة المرور كغير عادتها فكيف ستعيش مع هذه الحالة أكيد أنها تعيش حالة القلق والترقب بانتظار أن يرن عليها هاتف الضابط أو أن تسمع قرارات الحكم من التلفاز، حالة صعبة ومتعبة نفسيا ستعيشها ولكن لا مجال غير ذلك من يريد حريته وحقوقه عليه أن يصبر لينالها وهذا ما تفعله هويدا على مضض وتمر الأيام وتعقبها الأسابيع فيعلن في التلفاز وفي نشرة الأخبار المسائية نبأ صدور قرارات المحكمة بحق عصابة المخدرات وتراوحت قراراتها من الإعدام إلى السجن المؤبد والى خمسة عشر سنة كلا حسب جرمه والأدلة ضده واعترافاته.
فرحت كثيرا وهي تصرخ بأعلى صوتها وأخيرا جاء الفرج، كانت فرحتها لا توصف وكادت تطير فرحا وفي هذا الأثناء رن الهاتف، حملت سماعته نعم، السلام عليكم، عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أنا ضابط المركز، أهلا بك لقد وعدت ووفيت بالوعد وها أنت تتصل، نعم يا هويدا أردت أبلاغك بصدور الأحكام لكن هناك إجراءات أخرى فلا تتعجلي الأمور، أية إجراءات، التمييز يا هويدا فمن حقهم ذلك وخلال شهر واحد وإذا لم يميزوا تعتبر الأحكام القضائية نافذة المفعول واكتسبت الدرجة القطعية، ولكن كيف وكم يستغرق من الوقت، قلت لكِ خلال شهر فاصبري يا هويدا وودعها بأرق الكلمات.
عبست ثم بدأت تدعك بأناملها قلقة من جديد
ـ والدها: ما بكِ يا ابنتي
ـ هويدا: ( الدمع ينهمر من عينيها ) الضابط يا والدي
ـ والدها: ماذا قال وماذا يريد
ـ هويدا: ابلغني بأن الأحكام صدرت ولم يبقى الا التميز خلال شهر.
نعم يا ابنتي هذه إجراءات قضائية صحيحة، واصبر شهرا أخر، ليس لديك خيار يا ابنتي وشهر ليس بالطويل قد يكون ثقيلا عليك لكنه سيمر، وتمضي الأيام ببطء شديد وتصاب هويدا بوعكة صحية نفسية حادة تنقل على إثرها إلى المستشفى وتتلقى العلاج اللازم بعد أن قضت هناك ثلاثة أيام متتالية والعائلة في قلق مستمر عليها.
اتصل الضابط ثانية بدارهم محاولا أن يكلم هويدا فأبلغه والدها بسوء حالتها الصحية، أغلق الهاتف فورا وما أن انتهى من دوامه الرسمي عدل هندامه وتوجه إليها وما أن دخل الردهة وشاهدها مع والدها ووالدتها ابتسم بوجهها كأنه يحمل إليها خبرا سعيدا وبعد أن بادرهم بالتحية وردوها عليه قال لها لم أكن اعلم انكِ ضعيفة إلى هذا الحد عرفتك إنسانة قوية فما الذي حصل شهر واحد سيمر وستنتهي أزمتك نهائيا، ابلغني بما تحمل من أخبار فأني أقرء ذلك في وجهك، صدقتي يا هويدا اليوم قدم أفراد العصابة طلبا للتميز وقد أرسلته فورا إلى المعنيين بذلك مشفوعا بتوصية هاتفية لأحد أصدقائي هناك والتماسا مني بضرورة حسم القضية سريعا لأنها تتعلق بطرف يخصني، فوجئ صديقي وهل لك احد مع المجرمين، ضحكت لا أبدا أنها تتعلق بزوجة احدهم فقد أقامت دعوى قبل إن يلقى القبض عليهم لما تعرضت له من جور وظلم، لك ذلك يا صديقي.
جئت أطمئنك ستنجز الإجراءات خلال أسبوعين فقط، فرحت، ابتسمت ونهضت من رقودها لأول مرة منذ ثلاثة أيام وعدلت جلستها وهي تقول أنت طائر السعد أيها الضابط، ثم طلبت قدح عصير ليمون وشربته بتلذذ، فرح والديها وشكرا الضابط لاهتمامه بابنتهم وقدما إليه شروط الطاعة والعرفان لجميله هذا، غادرهم الضابط إلى حيث تسكن عائلته، جاء الطبيب المعالج ودهش مما رأى وكيف تغير حالها من حال إلى حال وبعد حديث مطول معها قرر خروجها من المستشفى على أن تستمر بتناول العلاج لأسبوع واحد فقط.
وصلت إلى بيتها مرتاحة الضمير هادئة النفس تنتظر الأيام الأربعة عشر كي تتلقى الخبر السار، وحاول والديها أن يهيئوا كل ما يسعدها ويفرحها في البيت من كلام جميل ومراعاة لظرفها ثم اتصلوا بصديقاتها المقربات فحظرنّ إليها وهنّ يحدثنها بهمس أحيانا وبصوت مرتفع أحيانا أخرى فتتعالى ضحكاتهنّ، اطمئن والديها على حالها وما أن خرجت صديقاتها جاءت هويدا للجلوس مع والديها مسرورة وهي تقول ستنتهي لا بد لها أن تنتهي وشكرت والديها على حسن صنيعهما ورعايتهما لها، عادت الفرحة إلى بيت الأحزان والهموم وكأن الله جعل لها مخرجا ليسعد هذه العائلة البسيطة المؤمنة ولينهي رحلة القلق فيها.
تمر الأيام ولم يبقى سوى يومين فقط على الموعد الذي حدده الضابط، رن الهاتف توجهت هويدا إليه ببطئ
ـ هويدا: نعم
ـ الضابط: أنا من مركز الشرطة يا هويدا
وتبادلا التحيا والحديث القصير ثم استدرك الضابط قائلا يا هويدا تعالي إلينا غدا لننهي إجراءات قضيتك، ماذا تقول، نعم صدر قرار محكمة التمييز وصودق على كل الأحكام، يا الله كم أنت رائع بأخبارك، أغلقت الهاتف وهي تقول انتهى كل شيء غدا اذهب وأكمل الإجراءات هذا ما ابلغني به الضابط، حمدا لله يا ابنتي فرج الله قريب ولا اعتراض على حكمه عليك أن تؤمني بقدر الله وقضائه يا ابنتي، نعم يا والدي ولولا ذلك ما هدى الله لنا هذا الضابط ولا يسر لنا أمرنا.
وفي الصباح الباكر ذهبت إلى مركز الشرطة وبتوجيه من الضابط قدمت دعوى الطلاق مشفوعا بقرارات المحكمة وما هي إلا إجراءات قصيرة لأيام عدة كسبت الدعوى وحصلت على مرادها وحقوقها في السكن وغير ذلك وعادت إلى حياتها الطبيعية أكثر حيوية ونشاطا والق ولم يعد وجهها ذابلا أبدا.
( 30 )
كان وميض في بغداد حيث يسكن يمارس عمله كل صباح كونه موظفا وفي زحمة العمل اليومي هذا لن ينسى حبيبته هويدا أبدا كانت تمر به ذكرياتهم كل لحظة وتعرض ذاكرته شريط حبهما الجميل رغم أيامه المعدودة فيبتسم لذلك وأثناء تفرغه من العمل كان وميض يذهب بفكره بعيدا إلى حيث القاهرة والأيام التي قضاها بكل الق الحب وجماله وروعته ويسرح به خياله إلى كل لحظات الشوق والحنان الملتهبة فيمني النفس بأن تعود تلك الأيام برونقها وحرارتها وهمس حديثهما.
غادر إلى بيته متعبا من العمل والتفكير بمن أحب وما أن وصل ودخل غرفته غير ملابسه سريعا وألقى بجسده المتعب على سريره محاولا النوم قليلا وان يريح جسده وما هي ألا لحظات رن هاتفه، امسك به، نظر إليه رباه مكالمة دولية
ـ وميض: ( بصوت متعب ) الوووووووو
ـ هويدا: السلام عليكم لطفا وميض وبسرعة لو أمكن لأني أخشى أن ينقطع الاتصال.
أنا وميض من المتكلم رجاءا، أنا هويدا يا حبيبي، نهض من فراشه هويدا هويدا، لقد اشتقت أليك يا وميض ولم اعد أطيق بعدا وفراقا، لقد أضناني البعد حبيبتي وغير أحوالي ليتك ألان بجانبي، ما بك يا وميض فصوتك قد تغيرت نبرته، نعم أنا متعب من هذا الفراق وبسبب الحزن والألم تغير صوتي، يا حبيبي لو تعلم شوقي أليك ولهفتي لرؤيتك كم هي، أنا اعرف ذلك لان حبنا كان صادقا واضحا من البداية.
بدأت هويدا تقص عليه قصتها مع زوجها وتشرح له كل التفاصيل وكيف تخلصت نهائيا منه وتغيرت حياتها نحو الأفضل حيث حسمت الأمور لصالحها وقالت له أنا ألان إنسانة حرة بلا قيود وأردت أن أطمئنك على أحوالي وهذا رقمي عندك اتصل بي متى تشاء وفي أي وقت ترغب وكذلك بإمكانك التحدث معي على النت عبر الايميل فكل وقتي لك يا حبيبي.
تفهم وميض وضعها الجديد واستبشر خيرا واوعدها بالتزاماته اتجاهها وبقرب الحديث بينهما اليوم حتما مساءا وحدد لها الساعة مراعيا فرق الوقت بين القطرين وهو يقول لها اليوم اليوم وليس غدا وهو يبتسم فتبادله الرأي والابتسامة كيف لا وهو شوق المحبين ولهفة العاشقين التي لا تنتهي أبدا وشهوة اللقاءات التي كانت بينهم والتي لا تنسى فهل سيستمران بهذا الحب الجميل وهل سيبقى حبهما متألقا كما كان؟.
أسئلة كثيرة يبقى جوابها في علم الغيب وما ستفرضه عليهم الظروف أو تحيط بهما تداعيات خارج إرادتهما أو يحدث أمر الله من مرض او وفاة.
وما أن أغلق وميض الهاتف خرج من غرفته بكل زهو الدنيا يمازح زوجته المريضة المتعبة والمنهكة القوى ويداعب حفيدته الوحيدة فتستغرب العائلة من تصرفه هل هذا وميض فعلا من يراه قبل قليل ويراه ألان لابد أن يستغرب، تمازحه زوجته ما غيرك هل حبا جديدا، فيجيبها بل حياة جديدة كنت انتظرها ولقاء امرأة طالما أسعدتني، هنيئا لك يا زوجي توكل على الله وتزوج ممن تحب فلم اعد قادرة على مراعاتك وتلبية طلباتك لكن تزوجها بعيدا عن هذا البيت، لكِ كل ما ترغبين كان بودي أن لا أتزوج وأنتِ على قيد الحياة لأنكِ غالية عليّ ولا أريد أن اجرح مشاعرك أبدا، أنا أخولك ذلك لأني مقصرة اتجاهك وتقصيري ليس بيدي انه بسبب مرضي وها أنا اليوم أقولها أمام أولادنا كما قلتها لك مرارا تزوج ممن تحب وأنا راضية لأنني تهمني سعادتك فقط اعمل لها بيتا مستقلا، أنت وصية أمي بذمتي ويجب أن أحافظ عليك وان لا اسبب لكِ أي آلم أو أن اجرح مشاعرك فلا يمكنني الزواج بأخرى لأني متيقن من أن ذلك سيؤلمكِ، توكل على الله لا تؤلمني سعادتك بل افرح لفرحك واسر بزواجك فقط أن لا تقصر مع عائلتك الأولى.
حوار بمنتهى الصراحة وخالي من الأنانية هاجسه الحب الذي بينهما والعائلة التي يسعون للحفاظ عليها حوار راقي جميل نابع من قلوب صافية نقية متقية تعرف حدود العلاقات الزوجية وتحترم مشاعر الزوجين، وفاءا للعهود وتمسكا بالوصايا هذا الحديث لن يعجب ابنه الأكبر فعاتب والدته أمام والده كيف تطلبين منه ذلك وتدفعينه للزواج بأخرى دفعا، يا ولدي أنا راضية بذلك ويهمني سعادة والدك وراحته في عش الزوجية الذي حرم منه منذ زمن ليس قصير لقد تحمل والدك ذلك دون أن يسمعني عتابا أو يضرني بحديث كان وما زال وفيا لعلاقته معي وفيا لوصايا والدته وحريصا عليكم إلى ابعد درجات الحرص أما آن الأوان أن نريحه يا ولدي ونحقق له ما يطمح إليه كالزواج، أمي الحبيبة رغم ذلك لا نريده أن يبتعد عنكِ.
وهنا يتدخل والده ويشترك معهم بالحديث يا ولدي أنت الابن الأكبر وأنت حزام ظهري وسندي وأنت رب الأسرة بعدى ورعاية أخوتك أمانة أضعها بين يديك لأنك أهلا لها يا ولدي لقد عشت أياما جميلة مع والدتك رغم قسوة الظروف التي كنت أمر فيها وكانت ولا زالت رفيقة عمري في السراء والضراء لقد تحملتني أيام الفقر والعوز وحرمت نفسها من كل شيء من اجل استمرار الحياة للعائلة والحفاظ على الأسرة وفي أيام الخير الوفير لم ابخل عليها أبدا كنت وما زلت أغازلها واسمعها الكلام اللطيف ليلا ونهارا سرا وجهارا وأقول لها الشعر بل واكتبه لها وقد عرض عليّ الزواج كثيرا من الأقارب ومن شيوخ العشيرة دون طلبات فكنت ارفض ذلك لأني حريص كل الحرص على عدم جرح مشاعرها وليس ذلك فقط بل وطلبت مني الزواج امرأة جميلة شقراء والدتها هولندية ووالدها عراقي رحمه الله وهي تحمل شهادة كبيرة طلبت ذلك عدة مرات وصارحت والدتها بذلك وأمامي وكانت تلجأ إلي في كل مشاكلها وأقدم لها يد العون ورفضت طلبها بأدب جم وكلام دبلوماسي لا يسيء لأحد، اطمأن يا ولدي لن ولم اسبب الأذى لامك أو لكم ما حييت.
يصمت الجميع عند سماعهم هذا وكأنهم يعيشون حالة صدمة إلا زوجته فتبتسم ثم تضحك بصوت مرتفع فتكسر حاجز الصمت التي تعيشه العائلة وتردف قائلة نعم صدق وكان يطلعني على ذلك باستمرار فلا أسرار بيننا حتى ابسط العلاقات التي كان يعيشها كنت اعلم بها من خلاله لذلك طلبت منه أن يتزوج لأحرره من كل القيود والالتزامات لأني اشعر به يحتاج إلى كتلة الحب والحنان والى أمور أخرى لا بد أن تتوفر له هذا موقفي أنا وهذا موقفه الذي سمعتموه فانظروا كيف هي حياتنا سعيدة رغم أن والدكم ما زال عاشقا أو مراهقا في الخمسين وأعقبتها بضحكة جميلة.
يصمت الجميع ثم يبتسموا ابتسامة رقيقة خجلة مما سمعوا ويتهامسوا بينهم ما زال يغازلها كأي عاشقين، يسمع وميض همسهم فيبتسم وهو يقول وسأبقى أغازلها فهل وجدتم حبا كهذا وهل رأيتم وفاءا مثله لكن قلبي يبقى ينبض لكل الجميلات وقلمي يبقى يكتب لهنّ جميعا فالإبداع لا يأتي من فراغ فأقرئوا كل ما كتبت لهنّ وأقرئوا كل ما سأكتب للقادمات، واعرفوا حقيقة واحدة فقط لن ولم اجرح مشاعر زوجتي ولن أكون سببا بذلك ولم تحدث بيننا مشاكل طوال تلك السنين، نحن نعيش بسعادة لان حياتنا مبنية على الوضوح والتفاهم فاطمئنوا على مستقبلكم.
( 31 )
وفي المساء فتح حاسوبه لينجز بعض الأعمال المتعلقة في المنتديات التي يشترك فيها ثم يفتح أيميله ربما تكون هويدا هي الأخرى قد فتحت أيميلها لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ينتظر وينتظر وقد طال انتظاره نوعا ما دون أن يرى طلتها مسك هاتفه النقال واتصل بها وما أن رن الهاتف أغلقه وما هي إلا لحظات وقد فهمت إشارته وتفتح أيميلها وتبدأ رحلة الغزل بينهما عبر الكاميرا والصوت بحديث كله شوق
ـ وميض: كم اشتقت إليكِ
ـ هويدا: لقد أحرقتني نيران حبك والشوق لرؤيتك يأخذ مني مأخذا كبيرا
ـ وميض: وها انتِ تريني ألان أنا أكثر لهفة لرؤيتكِ
ـ هويدا: لم اقصد هذا كل ما عنيت هو رؤيتك على ارض الواقع جسدا وروح فأضمك إلى صدري كي اشعر بحنانكِ
ـ وميض: وهل أنا نسيت حضنك الدافئ يوما انتِ تعيشين معي كل يوم ولحظة فهل ينسى عناق العشاق
ويستمر الغزل بينهما ويداعب مشاعرها بكلماته اللطيفة الرائعة ويشعران بدفء بعضهما البعض فتخلع ردائها الخارجي أمامه لتظهر نصف عارية وهو يشاهد مفاتنها الم تشتاق لنهديّ ، كيف لا اشتاق لهما وهما من سلبا لي إرادتي، تضحك هويدا .وتقول أعانك الله على البلوى، أعاننا جميعا جميل هذا اللون الوردي الذين تلبسيه، انه ثوب نوم جديد لبسته لك اليوم فتمد يدها وتخرج له نهديها وتتقرب على الكاميرا كي يراهما بوضوح، ما زلتي وفية وتفاجئيني بالجديد جميلة هي نهديكِ لو كنت بجانبي كان داعبتهما وأزيد فيكِ شهوة لا مثيل لها وأزيد احتراق مشاعرك حتى ننتهي من لذة الحب.
ويستمر حديثهما طويلا قرابة الساعة وهو يتغزل بمفاتنها وهي تبادله نفس الشعور ويستذكران أيامهما الخوالي في القاهرة، ومع صمت الليل ووحشته وكلام الغزل والحب شعر وميض بأن الوقت يسير مسرعا كغير عادته فلم تعد للدقائق أي قيمة لأنها تمر سريعة وهما يتسامران ويتغزلان ومع استمرار الحديث والاسترخاء تعم موجة من الهدوء النسبي في حواراتهما
ـ هويدا: أذا أردت أن ابعث لك رسائل هل تصلك
ـ وميض: أكيد ستصل
ـ هويدا: أعطيني عنوانك إذن يا وميض
ـ وميض: لكِ ما تريدين بغداد حي الربيع محلة 332 ويعطيها العنوان كاملا
ـ هويدا : شكرا وميض ستصلك رسائلي قريبا
وينتهي الحوار بينهما ويغلق حاسبته لكنه لم يعي حقيقة ما سيحدث وتساءل مع نفسه الم أحدثها ألان إذن أية رسائل سترسل فيجيب على تساؤله ربما ستبعث لي صور من أثارهم ربما ....ربما.
تدخل زوجته إلى غرفتها وتجد زوجها قلق نوعا ما، ما بك يا زوجي، لا شيء مهم يا زوجتي، إذن حدثني بما يقلقك، اتصلت مع صديقتي في مصر التي حدثتك عنها سابقا، من الشاعرة، لا المرأة الأخرى، وما بها طلبت عنواني كاملا فأعطيتها إياه لتبعث لي الرسائل، وهل صدقت ذلك وهي تضحك، ما الذي يضحكك، انه كيد النساء يا زوجي، ما تقصدين بالله عليك، ستعرف ذلك في حينه.
وخلدا للنوم بعد أن وضعت زوجته رأسها على كتفه وهي تحدثه بهمس لا عليك يا زوجي ولا تعطي الموضوع اكبر من حجمه، صدقتي يا زوجتي.
واستمرا نائمين على هذا الوضع وكلما شعر وميض انه بحاجة إلى أن ينقلب على الجهة الأخرى يغير رأيه إكراما لزوجته النائمة على كتفه والتي تشعر بارتياح تام واستمرا نائمين هكذا حتى صباح اليوم التالي.
( 32 )
وتمر الأيام سريعة وتعقبها الشهور الأربعة وما أن حل الشهر الخامس بطلته كانت هويدا ووميض على اتصال دائم عبر الايميل وفجأة تنقطع عنه لثلاثة أيام دون اتصال وحين حاول الاتصال بها هاتفيا لم يستطع فقد أغلقت هاتفها النقال وبدأت الوساوس تأكل جانبا من تفكيره وتشتت له أفكاره، حالة قلق أخرى يعيشها ودوامة جديدة يمر بها هذا العاشق الذي ما زال يمتطي صهوة الحب دون انقطاع وكأنه في ريعان الشباب.
هويدا حزمت أمرها وقررت زيارة العراق وسارعت لإكمال الإجراءات الإدارية وما أن أتمت ذلك توجهت إلى مكتب الخطوط الجوية المصرية وحجزت تذكرت السفر ذهابا وإيابا ولمدة أسبوع ثم سارت للذهاب إلى بيتها وجهزت حقيبة سفرها الكبيرة واضعة فيها كل ما تحتاج إليه في سفرها ثم ذهبت إلى بيت والدها الذي استقبلها بترحاب كبير وجلست بين والديها تبادلهم الحديث فلا غرابة من ذلك كونها سكنت شقة زوجها السابق وبعد الاطمئنان عليها ذهبت والدتها لتحضر طعام الغذاء فهي تعرف جيدا ما تحب ابنتها من الطعام وأثناء ذلك أبلغت والدها نيتها السفر إلى العراق بعد يومين لتلتقي بأحد الأصدقاء هناك ولتطلع على معالم الحضارة فيه، ناد والدها على زوجته فجاءت مسرعة إليه
ـ الزوج: اسمعي ماذا تريد أن تفعل ابنتك
ـ الزوجة: خيرا إن شاء الله
ـ الزوج: تروم السفر إلى العراق بعد يومين
ـ الزوجة: أ يعقل هذا يا ابنتي
فتجيبها هويدا نعم يا أمي أني ذاهبة إلى هناك لمعرفة حضارة هذا البلد ولي هناك صديق فأظمأني يا والدتي، كيف اطمئن ونحن نسمع في الأخبار أنباء الانفجاريات والقتل المستمرة هناك، أمي الحبيبة لا راد لأمر الله فأن أراد لي الموت أموت هنا فقط الأسباب تختلف وان ذهبت هناك يدركني الموت أيضا أذا حان موعد موتي فلا تحزني، بكت الأم ونزلت دموعها على وجنتيها وهي تقول حفظك الله من كل مكروه يا ابنتي، وما كان من هويدا إلا أن تمد يدها وتمسح دموع والدتها وهي تقول دموعكِ غالية عليّ يا أمي ادعي لي الله كي أعود إليكم، حزن والدها وتألم كثيرا وعبس وكأنه غير راضٍ على سفرها، ما بك يا والدي أراك غير راضٍ على ذلك، نعم يا ابنتي فالتوقيت غير مناسب والأجواء هناك متوترة والأمن غير مستقر وأنا أخشى عليك من ذلك، والدي ليس لي غيركم وأملي أن تباركا لي الذهاب إلى هناك ويقيني إني سأعود أكثر استقرارا وراحة لأني فعلا محتاجه إلى تلك السفرة، يطأطئ والدها رأسه قليلا ثم يرفعه وهو يبتسم ابتسامة خفيفة لكِ ما تريدين يا ابنتي وسندعوا الله أن ييسر لكِ أمرك، ارتمت بأحضان والدها ووضعت رأسها على صدره وهي تبكي ثم ضمت والدتها بين ذراعيها لتشعر بحنانها ورضاها فهي بحاجة إلى ذلك.
وبعد أن أتمت والدتها الطبخ رتبت أطباق الأكل على الطاولة ووضعت الطعام ونادت عليهم لتناوله جلسوا جميعا جلسة عائلية وتناولوا طعامهم بلذة ونهم عاليين بعد ذلك حمدوا الله وشكروه على هذه النعم.
وبعد حديث ودي مصحوب بابتسامات لطيفة وحوار ألطف نهضت هويدا من مجلسها مودعة والديها على أمل اللقاء قريبا فودعاها بابتسامة رقيقة كي تشعر بالطمأنينة، غادرتهما وهي مسرورة وأثناء سيرها في الطريق قابلت صديقتها فتحدثت إليها وهنّ واقفات على رصيف الشارع وأبلغتها بسفرها إلى العراق فاستغربت صديقتها من هذا الخبر المفاجئ ، العراق يا هويدا هل أشتقتي إليه يا مجنونة، لم اعد احتمل الفراق فكلي شوق إلى حضنه الدافئ ومشاعره الجياشة والى قصائده التي يسمعني إياها بصوته الحنون، مجنونة أنتِ أ تذهبين إليه في هذا الزمن العصيب ابلغيه هو بالمجيء إليك، وهل الأمن عندنا مستقر يا صديقتي إلا تري ما أصبح حالنا بعد التغير الم تشاهدي البلطجية وعصابات الطرق وما تفعل الم تشاهدي التظاهرات وتسمعي رصاص أجهزة النظام الجديد أزيزه يملئ الطرقات، نعم نعم يا هويدا اعلم ذلك، إذن ما الفرق الرصاصة المنطلقة هنا ربما تقتلني وهي نفس الرصاصة هناك ربما تصيبني بمقتل ما الفرق يا صديقتي.
تصمت صديقتها وكأنها اقتنعت بوجهة نظر هويدا ثم قالت لها على بركة الله تذهبين وبحفظه تعودين إن شاء الله.
افترقتا كلا إلى وجهتها وما زالت هويدا تسير في الطريق تنظر إلى البنايات والمحلات التجارية نظرة مفارق لا يدري هل سيعود؟.
تواصل سيرها حتى وصلت شقتها ودخلت فيها ثم ألقت بجسدها المتعب على السرير تحلم ببغداد وما فيها ومن بها حبيب يسكنها تعد له مفاجئة أخرى من مفاجأتها التي لا تنتهي فابتسمت وكأنها تعرف ردة فعله.
ومرت اليومين وحان موعد السفر فحملت حقيبتها الكبيرة وحقيبة اليد التي وضعت فيها أوراق السفر وأموالها بالدولار، ثم استأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى المطار وهناك أكملت الإجراءات المطلوبة ودخلت إلى صالة المغادرة تنتظر النداء على الطائرة المتوجهة إلى بغداد، جلست فأصبح وقت الانتظار طويلا لأنها بدأت تعد دقائقه عدا وتنظر إلى ساعتها باستمرار مما لفت إليها أنظار الجالسين فحدثتها امرأة كبيرة بالعمر عراقية ذاهبة إلى ارض الوطن ما بكِ يا ابنتي تنظرين إلى ساعتك باستمرار، نعم والله فهذه سفرتي الأولى إلى العراق والانتظار صعب سيدتي، مصرية أنتِ نعم الانتظار صعب وعلينا أن نشترك بالحديث كي يمضي الوقت يا ابنتي، وهو كذلك، لماذا تزورين العراق، كي اطلع على معالمه وحضارته، وغير ذلك لأني لم اقتنع، ابتسمت هويدا، أنتِ محقة سيدتي وكي أرى صديقا فارقته، المرأة لا تشد الرحال إلى صديق فقط في مثل ظروف العراق الغير أمنة، ابتسمت ثانية صدقتي سيدتي فهو حبيبي ولطالما كنت اشتاق للعراق فأصبح لي سببان للزيارة، يا ابنتي خذي حذرك وتصرفي بحكمة وحاولي أن لا تتحدثي هناك كثيرا بلهجتك كي لا تلفتي الأنظار إليكِ من ضعاف النفوس، نعم سيدتي وهل لهجتي المصرية تسبب لي المشاكل، يا ابنتي عصابات الموت تبحث عن كل ضعيف وكل غريب ثم فكرتي أين ستسكنين، في فندق سيدتي.
صمتت المرأة قليلا وكأنها تفكر بأمر ما ثم قالت لها يا ابنتي أنا اسكن بغداد واعرف ما بها واعرف مشاكلها إذا ما وصلنا إلى هناك سترافقينني في مطار بغداد الدولي وسأنجز لكِ كل الإجراءات وما عليك إلا الصمت وحين نغادر المطار ستكونين ضيفتي وتقيمين معي في بيتي مع بناتي لحين أن تتصلي بحبيبك ربما يجد لكِ سكنا ترتاحين فيه واعلمي انك أمانة ألان عندي، شكرا لكِ سيدتي هذا كرم لن أنساه أبدا.
وما زالتا تتحدثان لتمضية الوقت وإذا بالنداء ينطلق من مكبرات الصوت بالتوجه إلى الطائرة المغادرة إلى بغداد نهضنّ من مجلسيهما وتوجهتا إلى الطائرة وجلستا في مقعديهما المتباعدين قليلا وما هي إلا دقائق حتى انطلقت في الفضاء متوجهة إلى بغداد وبدأت مضيفات الطيران بتقديم وجبات الطعام للركاب المسافرين ثم قدموا المشروبات الساخنة لمن يرغب بها، الطائرة ترتفع كثيرا حتى أصبحت الغيوم تحتها وهي تواصل الطيران وتمر الساعات وتبدأ الطائرة بالانخفاض قليلا حتى أصبحت معالم الأرض واضحة مساحات خضراء وأخرى جرداء وبنايات بحجم علبة الثقاب والطائرة ما زالت تواصل الانخفاض وأثناء ذلك تعلن المضيفة على الجميع ربط أحزمة الأمان لان الطائرة ستهبط قريبا في مطار بغداد الدولي ورويدا رويدا تنخفض الطائرة حتى اتضحت معالم المطار ويأتي النداء عبر مكبر الصوت حمدا لله على سلامة الوصول ونرجو من الجميع الجلوس في مقاعدهم لحين إتمام عملية الهبوط وتمر لحظات قليلة وتهبط الطائرة على المدرج بأمان ثم توقفت في المكان المحدد لها وربط الخرطوم الخاص لكي ينزل الركاب من الطائرة وما أن غادر الجميع الطائرة ودخلوا إلى صالة الاستقبال قامت المرأة بإنجاز ختم الدخول إلى العراق ثم توجهت إلى هويدا وأنجزت لها هذه الإجراءات وتوجهتا إلى الحزام الناقل الدوار لاستلام حقائب السفر وما أن تم ذلك خرجتا متوجهتين إلى السيارات التي ستقلهما، كانت هويدا تعتقد أن هذه السيارات ستوصلهنّ إلى العاصمة لكنها فوجئت حين توقفت السيارة غير بعيد وقرب تمثال عباس بن فرناس نزل الجميع وهويدا لا تعرف السبب، قالت المرأة يا ابنتي لا تستغربي هذه محطة وضعت لأغراض أمنية ومن هنا سيتوجه الناس إلى العاصمة ومدنها أو إلى المحافظات التي يرومون السفر إليها وتوجهتا إلى سيارة أجرة وطلبت المرأة من سائقها أن يتوجه بهم إلى مدينة المنصور قرب مطعم الساعة، توجه إلى المكان المقصود وكان الصمت هو سيد الموقف فقد التزمت هويدا بالوصايا وحين وصلوا مطعم الساعة طلبت منه المرأة التوجه إلى هذا الزقاق والتوقف أمام الدار وسددت له الأجور، واخرج لهما الحقائب، وعند بوابة البيت الداخلية كانت ابنتيها تنتظران وكلهنّ لهفة للقاء والدتهنّ ألا أنهن استغربنّ لوجود مرافقة لوالدتهنّ ولا يعرفنّ من هي، وما أن دخلت والدتهنّ تسير مع هويدا نحو الباب الداخلي خرجنّ إليها واحتضنتها ابنتها الكبرى وقبلتها ثم احتضنتها الصغرى بعد ذلك أدين التحية للضيفة القادمة وردت عليهنّ بلهجتها المصرية فاستغربن ذلك وما أن دخلنّ الدار وجلسنّ قصت عليهن حكاية هويدا، فرحبنّ بها اشد ترحيب وهيئنّ لها احد غرف الدار كي ترتاح من السفر الطويل.