تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
رواية شبـــح الموت
وليد زيدان أللهيبي
الإهـــــــداء
ــ إلى أبطال الزمن الصعب
ــ إلى زوجتي ورفيقة الدرب
ــ إلى كل الذين وقفوا معي بلا تعب
وليد زيدان أللهيبي
( 1 )
ولد حسن في جنوب العراق وفي احد الأهوار في محافظة ميسان عام 1926 م من عائلة فقيرة لا تملك من متع الحياة ألا الشيء القليل ، في هذا الهور الميساني تكمن صعوبة الحياة حيث لا يصل إليهم التطور وتقنياته أبدا ويعاني الهور من عدم توفر الماء النقي والكهرباء والمراكز الطبية والمدارس وغير ذلك 0
كل سكان الهور يعيشون في جهل واسع والأمية منتشرة بشكل كبير ونادرا ما تجد من يجيد القراءة والكتابة ، كل ما يعرفه سكان الهور هو تربية الجاموس والصيد وقطع القصب واستخدامه في بناء الدور أو إعطائه كعلف لحيواناتهم كانوا يعيشون حياة بسيطة بدائية صعبة يعانون فيها من سوء الصحة والجهل 0
تزوج حسن من امرأة من سكان الهور أيضا وهي أقربائه كان ذلك عام 1944 م وأقيم الاحتفال بهذا الزواج حيث أعدت الزوارق التي تسمى المشحوف وانطلقت تشق مياه الهور تسير بطريق متعرج ذات اليمين وذات اليسار تحمل النساء والرجال وهم ينشدون الأغاني ويرقصون ويطلقون الأعيرة النارية في فضاء الهور إلى أن وصلت المشاحيف دار العروس وهناك تم دخول دارها واصطحابها إلى احد المشاحيف ، أجلسوها فيه تحيطها النسوة وانطلقوا إلى حيث دار حسن ، النسوة تزغرد وتصفق وتغني وترقص فرحا والعروس صامتة مطأطئة الرأس والدموع تسيل على خديها حزنا على فراق الأهل والأحبة 0
( 2 )
رغم أن المسافة غير كبيرة بين الدارين ألا أن فراق الأهل عند العروس اثر فيها كثيرا أو ربما هو الحياء والخجل من هذه الليلة هو السبب لان سكان الهور ترعرعوا على الأخلاق الحميدة الفاضلة من العفة والشرف والكرامة ويربطهم بالأسرة روابط الحب والحنان 0
وصل موكب العرس بكل زوارقه إلى دار العريس الذي كان يلبس الزى العربي الجميل والكوفية والعقال ، كما أن رجال الهور المشاركين بالاحتفال يلبسون أفضل ما عندهم من الملابس ليظهروا بقيافة جميلة تشد الناظر أليهم وخاصة من النساء ، ونساء الهور يرتدين الملابس البراقة ذات الألوان الجميلة الزاهية التي تسر العين عند مرآها 0
في هذا الجو البهي من الفرحة والمتعة والسرور وبين زغاريد النسوة ورقصهنّ وغنائهنّّ وبين الأعيرة النارية المنطلقة من البنادق القديمة عند الرجال يزف حسن على عروسه وذلك بعد انتهاء تناول طعام العشاء للمحتفلين ، يزف حسن على عروسه الجالسة في احد غرف الدار المصنوع من القصب البردي بإتقان وذوق 0
دخل حسن في غرفته فوجد عروسه تحيط بها بعض النسوة لتسليتها وأزالت شبح الوحشة عنها لأنها فارقة لأول مرة عائلتها والديها وأخوتها وأخواتها ، دخل حسن فرحا مزهوا على عروسه فانسحبت النسوة بهدوء من الغرفة 0
في هذه اللحظة أمسكت العروس يد والدة حسن محاولة إبقائها معها ويدها ترتجف خوفا
ــ والدة حسن : اشبيج يمه لتخافي هذا رجلج بشرع الله
ــ العروس : ( بصوت خافت مرتعش) ابقي وياي اليوم
طمأنت والدة حسن العروس ببعض الكلمات وغادرت الغرفة ليبقى العريسان وحدهما حبيسا الجدران والقلق 0
حسن قلق من موقف زوجته في يومها الأول وارتباكها الواضح 0
الزوجة قلقة من هذه الليلة التي لا تعي ما سيحدث لها مع زوج رأته لأول مرة 0
( 3 )
انفض العرس وغادر رجال ونساء القرية إلى دورهم بمشاحيفهم فرحين مسرورين 0
أما شباب القرية الهورية فقد تجمعوا في دار احدهم يتسامرون كعادتهم بالغناء الريفي الجميل وهم يحتسون الشاي تارة والقهوة العربية تارة أخرى 0
وبماذا يتحدثون اليوم بعد الغناء والطرب ، وهل لديهم غير حدث الساعة ( زواج حسن ) 0
لقد كان عرسا مميزا بكل تفاصيله بساطته وغناءه وأزيائه الرائعة وكذلك حجم الحاضرين من الرجال والنساء ، قال ذلك احدهم فأنتبه اليه باقي الشباب ، وماذا بعد ، لا شيء لقد كان عرسا عربيا رائعا ،
ــ جاسب : شتكولون اليوم حسن يدبرها
ــ قاسم : شلكيته غشيم
ــ جاسب: يمعود خاف يخجلنه
ــ عباس : لتخاف أخويه خاف على نفسك ترة حسن ذيب
ضحك الجميع من الأعماق وهم ينتظرون بشرى ما ينجزه حسن في ليلة زفافه 0
ويستمر شباب القرية بالحديث فيما بينهم ويتمنون الزواج هم أيضا 0
يا جماعة والله شفت أبنية حلوة وتمنيتها تكون زوجتي ، منو هاي ، ما ادري ، بس شاورت امي عليها ، وشكالت امك ، ما عرفتها وكالت اليوم اسأل عليها ، أجابه الأخر بعد شتريد أمورك عدله 0
وفاجئهم صاحبهما حين قال نساء القرية أخواتنا وبنات عمومتنا والواجب أن لا نمس أحداهنّ بسوء ، أي سوء تتحدث عنه يا عباس ، إنكم تلوكون بسيرة فتاة من القرية ، ألا ترى انه صادق بحديثه حين اخبر والدته عنها ، قال الآخر ألا تعتقد يا عباس أن جاسب يسعى للزواج منها وألا ما كان ليخبر والدته عنها لتعرف من هي ثم ترتب الأمور الأخرى 0
نعم صدقتما والله لكني اشعر بإحراج ماذا لو كانت تلك الفتاة أخت واحد منا هل سنتحدث عنها بنفس الطريقة 0
ولكي يغير جاسب الموضوع بدأ بالغناء وشاركوه هم أيضا فرحين 0
( 4 )
اختلى حسن بعروسه بالغرفة المشيدة من القصب في الدار الذي تحيطه مياه الهور من كل جانب تلك الغرفة التي ستولد فيها أسرة جديدة تقدم باتجاه زوجته بهدوء ووقف أمامها وهي جالسة على سرير النوم بثوب العرس الأبيض والبرقع يغطي وجهها وهي مطأطئة الرأس خجلة ، مد يده ليرفع عنها البرقع كي يرى وجهها الجميل الذي تشوق كثيرا لرؤيته وبلهفة الزوج في يومه الأول ألا إنها ابتعدت قليلا إلى الوراء ولم يتمكن ومن رفع البرقع 0
ماذا بكِ أنا زوجك على شرع الله ونحن لم نرتكب أمرا مخالف لتعاليم الإسلام ، جلس بجانبها ومسك يدها بلطف ورقة ، حاولت سحب يدها وهي مرتبكة ومرتعشة الجسد ، امسك يدها بقوة وهو يقول أنتِ زوجتي ألان يا حسنة والأهل خارج الغرفة ينتظرون البشرى في هذا اليوم ثم أنا رجل ولا ارغب أن أكون أضحوكة لأهل القرية حين لا أحقق رغبتي منكِ وأ أخذ ما احل الله لي 0
نهض وهو ممسك بيدها وسحبها بقوة وأنهضها من مجلسها وضمها إلى صدره بقوة وأحاطها بذراعيه ، ثم رفع البرقع عن وجهها ورأى وجهها المشرق الجميل الخجل ، ثم داس بقدمه على قدمها بقوة ليشعرها أنها تحت سيطرته منذ ألان إلى أن يفعل الله أمرا كان مفعولا وهذا تقليد لدى العشائر القروية والريفية 0
لازال يحيطها بذراعيه وقرب وجه من وجهها فشعرت بأنفاسه 0
ثم قبلها من شفتيها برغبة عارمة وشهوة جياشة دون أن تبادله نفس الشعور فشعر انه اغتصب منها هذه القبلة اغتصابا 0
في حين كانت حسنة قد أصابها الخجل واحمرت وجنتيها وبدأ جسدها بالارتجاف حينها شعرت انه لا مفر منه وانه سيأخذ ما يريد ، ألقى بها على السرير وخلع ملابسه وانزعها ملابسها عنوة ومن حيائها وخجلها جمعت جسدها وجلست على شكل القرفصاء وكلما تقدم حسن منها انسحبت قليلا ، أدرك حسن انه لا محالة اليوم ويجب أن يحقق ما يريد وفعلا تمكن منها واشبع غريزته وشعر لأول مرة بلذة الزواج والمتعة 0
لبس ملابسه البيضاء وخرج فرحا
والدته : ها يمه بشر
حسن : انتهى كل شي
ما كان من الأم ألا أن تطلق الزغاريد وهي تسير باتجاه غرفة العروس وحين وصلتها قبلتها وهي تنظر إلى قطعة القماش الأبيض الملطخ بقليل من الدم ، حملت والدة حسن تلك القطعة من القماش وخرجت بها إلى النسوة الحاضرات فازدادت الزغاريد وقام والد حسن بإطلاق الأعيرة النارية في فضاء الهور ، نعم عمت الفرحة الجميع كون أنجز حسن ما أراد وكذلك كون زوجته كانت باكرا 0
ــ جاسب : شنو هاي الطلقات وين مصدرها
ــ قاسم : باتجاه دار حسن
ــ عباس : موكتلكم حسن ذيب سوه ليريده
قالوا ذلك وهم يضحكون فرحين لصديقهم وواصلو سهرتهم الغنائية بشغف اكبر 0
( 5 )
وفي الصباح هيأت والدة حسن الفطور للعروسين وهو قيمر عربي وحليب وشاي وخبز حار وبعد أن أتما فطورهما خرج حسن وزوجته وسلموا على أفراد العائلة وقبل حسن يد والده كما قبل رأس والدته ، ثم قبلت حسنه يد والد حسن وقبلت رأس عمتها وسلمت على جميع الحاضرين وبدأت تنهال عليها المبالغ النقدية من الجميع أكراما لها أن هذه الوكعة ( مبلغ من المال يعطى للعروس من أفراد العائلة والأقرباء ) تقليد ساري المفعول إلى يومنا هذا ليس في القرى والأرياف في الجنوب بل وفي كل مدن ومحافظات العراق من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب 0
وتستمر الفرحة بدار حسن ولا زالوا يستقبلون الضيوف وينحرون الذبائح أكراما لمن جاء محبا ومباركا ، لم يألف حسن الجلوس في البيت حبيس الجدران هكذا بلا عمل لكنها الضرورة القصوى التي أرغمته على ذلك وهو قد اشتاق إلى أصدقائه كثيرا اشتاق إلى أيام المزاح والغناء والمقالب التي كان يصنعها لهم 0
وتمر الأيام الأولى من الأسبوع ويحين موعد حفلة السبعة التي تقيمها العائلة بمناسبة مرور سبعة أيام على الزواج فيعدون العدة لذلك وينحرون الذبائح ويهيئون الطعام والحلوى والعصير ويدعون نساء القرية لهذه الحفلة ، جاءت النساء وهنّ يرتدينّ أجمل الثياب في الموعد المحدد والزغاريد تملئ المكان جلسنّ في حلقة أعدت لذلك وبين تصفيقهنّ والزغاريد يخرج أليهنّ قمر يمشي بساقين ، قالت إحداهنّ شوفوا حسنة صايرة كمر وانتبهنّ جميعا ينظرن أليها وهي تمشي بهدوء وترتدي ثوب جميل جدا ، جلست في مكانها المحدد بعد أن سلمت على جميع النسوة ، وكانت النسوة بين الغناء والزغاريد والرقص وبين مداعبة العروس بخفة لإضحاكها ، وبين فترة وأخرى تنهض حسنة من مكانها وتذهب إلى غرفتها وتعود أليهن من جديد ولكن بثوب آخر جديد أيضا وتستمر بهذه العملية وتغير الثياب عدة مرات كي ترى النساء أثوابها الجميلات وهذا تقليد آخر اعتادت عليه العوائل العراقية أيضا 0
استغل حسن هذا اليوم للخروج قليلا إلى حيث أصدقائه تاركا البيت بمن فيه من النسوة لكي يكملنّ حفلتهنّ ، انطلق إلى حيث يجب أن يكون أصدقائه ومن بعيد سمع صوت عنائهم وضحكهم وشيء فشيء تقرب منهم حتى وصل على مقربة منهم ، شاهدوه وهو قادم بزورقه أليهم أوقفوا الغناء وساد المكان صمت غريب
ــ جاسب : لقد جاء حسن
ــ عباس : لقد اكتمل مجلسنا اليوم
السلام عليكم ، وعليكم السلام بمن كسر حاجز العزوبية وتزوج وتركنا ها هنا قاعدون 0
قالوها وهم يضحكون ، لكم يوما تكسرون به هذا الحاجز قالها وهو يتقدم باتجاههم فأخذوه بالأحضان فرحين مسرورين 0
ــ قاسم : شلون أيام العرس حلوة
ــ حسن : ليش اكو مثل حلاتهه
ويستمرون بالغناء تارة وبالمزاح مع حسن تارة أخرى ويأخذهم الحديث وتمضي الساعات سريعة جدا فتغيب الشمس دون ان يشعروا بذلك ونسى حسن انه متزوج وان في الدار امرأة تنتظر عودته 0
ــ حسن: لقد أخذنا الوكت يا جماعة الخير اسمحوا لي بالمغادرة
ــ عباس لقد اشتغلت أوامر وزارة الداخلية ( الزوجة)
ــ قاسم : اذهب يا صديقي وكن حذرا من حساب الزوجة
ضحك الجميع ، غادرهم حسن مسرعا وحين وصل إلى الدار وجده خاليا من الضيوف حيث أن الحفلة قد انتهت منذ وقت بعيد ، وما أن دخل غرفته قالت الزوجة سلامات حسن وين هل الغيبة ، ضحك حسن وقال أدركني الوقت مع أصدقائي ، أذن لماذا تضحك ، لاشيء لا شيء قالها ولا زال يضحك ، اضحكني معك يا رجل ، لقد قال أصدقائي حين حاولت الخروج اذهب إلى أوامر وزارة الداخلية أي أنتِ ، ضحكت حسنه بملئ فمها وقالت لعد شلون غير بالي يمك ، لازم اشتاكيتيلي ، حسن أنت زوجي ولازم اقلق عليك مو بس اشتاكلك 0
( 6 )
انتهت أيام العرس السبعة وكان واجبا على حسن أن يعود إلى عمله المعتاد وهو اخذ الجاموس وإطلاقه في المراعي لترعى من الأعشاب الطبيعية والقصب البردي ثم العودة بها عصرا إلى الحظيرة المعدة لذلك قرب دارهم واستخراج الحليب من إناث الجاموس 0
ومن واجباته أيضا الخروج إلى الهور بمشحوفه ليصطاد الطيور المائية بواسطة البشتاوة وهي بندقية تصنع يدويا من أنبوب معدني وقطع الخشب ويوضع فيها البارود والكرات المعدنية الصغيرة ( الصجم ) ويتم أطلاقها عبر فتيل خاص 0 أو صيد السمك بواسطة الشباك المعدة لهذا الغرض ورحلة الصيد هذه فيها متعة جميلة إضافة لكسب الرزق منها 0
أما العروس حسنة فقد انتهت مدت دلالها بانتهاء الأيام السبعة وأصبح واجبا عليها العمل أيضا ضمن أطار الأعمال المنزلية وغيرها من تنظيف وغسل الأواني والملابس وصنع الخبز وطهي الطعام وصنع القيمر العربي أو الركوب بالمشحوف وقطع القصب البردي وجلبه إلى البيت كل هذا وغيره هو من واجبات المرأة في هذه القرى وسط الهور 0
نهضت حسنة منذ الصباح الباكر وجمعت بيض الدجاج وهيئة الصاج وأوقدت النار كما جلبت كمية من طحين ألتمن ( الرز ) وبدأت بخلطها بالماء وفق قياسات معلومة لديها حتى أصبح السائل ذو قوام متماسك ، وضعت الصاج فوق النار وما أن بدأت الحرارة تأخذ طريقها وأصبح الصاج شديد الحرارة بدأت حسنة بسكب كمية من سائل الماء وطحين ألتمن وبدأت بسكبه فوق الصاج وكلما نضج القرص رفعته ووضعت غيره وبذلك أصبح خبز السياح جاهزا لتناول الفطور مع بيض الدجاج المقلي بالدهن الحر ( السمن البلدي ) وهو وجبة الإفطار المحببة عندهم 0
ثم بدأت بالأعمال الأخرى تباعا يعاونها بذلك شقيقات حسن ووالدته ، ثم أن الحياة وسط الهور رغم صعوبتها والمشقة التي فيها فهي محببة عندهم لأنهم اوجدوا لهم فيها الراحة والمتعة والغناء حتى أثناء ممارسة العمل ، وان الأعمال موزعة على الجميع والكل حريص على انجاز عمله بإتقان 0
( 7 )
بعد انتهاء العمل وتناول طعام العشاء يبدأ الرجال بالتزاور فيما بينهم ويكون مكان السهرة معلومة لديهم أي في أي بيت سيلتقون ، فكبار السن من الرجال ممن تجاوز الأربعين عاما وأكثر أو اقل بقليل يتوافدون عند مضيف الشيخ ، المضيف مبني من القصب البردي ومشيد على مساحة واسعة من الأرض فحزم القصب الكبيرة المتلاقية في الأعلى تشكل أقواسا جميلة وهي يعتمد عليها في أنشاء باقي المضيف ويوجد في مقدمة المضيف عند مدخله يوجد الاوجاغ وهو مربع مبني من الطابوق ذو ارتفاع قليلا جدا توقد فيه قطع الخشب أو الفحم ويضع فيها دلال القهوة العربية السبعة من الحجم الكبير المسمى القمقم إلى الأصغر فالأصغر حتى دلة تقديم القهوة ويعمل بالمضيف رجل مختص بصناعة القهوة وتقديمها يسمى الكهوجي ، هناك طريقتان لتقديم القهوة العربية إلى الضيوف الأولى ( الكص ) وتعني أن يبدأ القهوجي بتقديم القهوة من جهة اليمين إلى آخر شخص موجود من الضيوف حيث يسكب كمية قليلة جدا في الفنجان ويقدمها للضيف وتتكرر العملية إلى أن يكتفي الضيف من احتساء القهوة وبذلك يعيد الفنجان إلى القهوجي مع هزه بيديه أما الطريقة الثانية فهي ( الخص ) وتعني أن يشخص القهوجي شخصا معينا كأن يكون من السادة الأشراف أو شيخ عشيرة أو مسؤولا بالدولة فيبدأ به بتقديم القهوة ويستمر بتقديمها الى يمينه حتى يصل إلى آخر ضيف موجود 0
في هذا المضيف يتسامرون بالحديث ويستمعون إلى قصص البطولة والطرائف وقصص الحكمة كما يتداولون بشؤون العشيرة وأحوالها وهم يحتسون القهوة العربية ويقوم شيخ العشيرة بفض الخلافات بين أبناء العمومة أن وجدت والكل يرضى بحكمه لأنه نابع من سريرة نقية ومكتسب من خبرة الدواوين 0
أما الرجال الأصغر سنا والشباب فيتجمعون عند اقرأنهم يستمتعون بالغناء الريفي وحوارات الشباب وقصص الحب العذري التي يعاني منها بعضهم وطموحات ليس لها حدود ولا إمكانية للتحقيق بسبب الجهل والفقر والأمية التي ضربت أطنابها في مجتمعهم 0
وبما أن حسن هو العريس الجديد بينهم فقد بدئوا بالمزاح معه
ــ قاسم : أي حسن احجينه الزواج شلونه
ــ جاسب : ( وهو يضحك ) يكولون عسل في عسل صدك هذا الحجي
ــ حسن : الزواج استقرار وراحة بال
ــ عباس : أي احجينه وبعد شبي الزواج
ــ جاسب : يعني انت غشيم متدري حسن بيوم الزواج اشسوة
ضحك الجميع بطيبة خاطر ، بدأ الغناء ينطلق من حنجرة قاسم يشاركه أصدقائه بالتصفيق الهادئ ودك الاصبعتين المصحوب بحركة الساق البسيطة والفرحة تعم الجميع وساعات الليل تمضي سريعة ثم شعر حسن بأن الوقت قد مر وقد تأخر بالعودة إلى زوجته التي تنتظر قدومه ، استأذن من أصدقائه ليعود إلى حيث داره ، هذه واحدة من مساوئ الزواج أن تغادرنا سريعا ، اتركوا الرجل ليذهب فلم يعد أعزب ، نعم أصبح لديه من يسأل عنه ويقلق عليه 0
غادرهم حسن فرحا مسرورا وهو يسير ببطئ نحو داره ، في الدار زوجته دخلت غرفتها وهيئة نفسها لزوجها من الماكياج البسيط الريفي إلى الملابس الجميلة التي ارتدها ، دخل حسن دارهم وألقى التحية على الموجودين ثم دخل غرفته وما أن تقدم داخلها استقبلته زوجته وارتمت بأحضانه بلهفة وشوق عارمين وتبادلا القبل وقوفا يشعر كلا منهم بحنان الثاني وعاطفته حتى ارتعشت أوصالهما فتقدما إلى السرير وهما يحتضن كل واحد منهم الآخر واستلقيا عليه ولهفة الشوق تهزهم ومتعة الجنس أخذت منهم مأخذا كبيرا حتى أتما ما رغبا به ، وبدأ حسن يحدثها عن أصدقائه ومزاحهم والغناء الذي يعشقوه وبادلته هي عن ما أنجزته في البيت من أعمال وما تحدثت به مع شقيقاته وهي تعيش اسعد لحظات عمرها في بيت يقدرها وزوج مولع بحبها حريص على سعادتها يسعى دائما لإرضائها 0
( 8 )
وتمضي الأيام سريعة وتنتهي الأشهر الثلاث الأولى وتبدأ حسنة تتغير حيث يصيبها الدوار ( الدوخة ) باستمرار وتبدأ بالقيء وهي مجهدة ، لفت ذلك نظر والدة حسن وبدأت تسأل حسنه بعض الأسئلة التي تتعلق بالنسوة وحسنة تجيبها بنعم ، ابتسمت والدة حسن وهي تقول لها مبروك يمة ، فتجيبها حسنه عمة أني مريضة وأنتي تكولين مبروك ، لا يمة أنتي حبلة وبشري حسن اليوم خلي يفرح 0
بدأت حسنة تعد الساعات عدا حتى أصبحت تلك الساعات من أثقل ساعات عمرها وهي تنتظر عودة حسن لتخبره بالخبر السعيد وتبدأ حسنه بالتحرك ذهابا وجيئة عسى ترصد عينيها قدوم زوجها ، كانت حسنة ترصد الطريق وعينيها معلقة بالهور وتتساءل مع نفسها متى سيأتي المشحوف متى يأتي حسن 0
وتتعب من الرصد والترقب كما تعبت من حساب الساعات الثقال وتخلد إلى النوم في غرفتها وعلى حين غرة يدخل حسن عليها وتصيبها المفاجئة ، تنهض مسرعة تقف أمامه بذهول والابتسامة على وجهها ، ماذا بك يا زوجتي ، فتصمت وهي تنظر إلى عينيه كأنها تراهما لأول مرة ، فيضع حسن يديه على كتفيها ويهزها بلطف وهو يقول ما بكِ يا حسنة ، فتجيبه خبر سار ، أليّ به ، أ تعطيني البشارة ، نعم أعطيك البشارة فما هو ، فتجيبه وما هي البشارة التي ستعطينني إياها ، يضحك حسن ويقول قبلة من شفتيك العذبتين ، أذن أنا حامل يا حسن ، يضمها بين ذراعيه ويقبلها من شفتيها بفرحة عارمة ليس لها حدود وهو يردد سأكون أبا سأكون أب 0
اهتمي بنفسك ، لا تتعبي نفسك بالعمل ، تناولي الطعام باستمرار ، حافظي على ما في رحمك وتبدأ الوصايا تنهال عليها ، على رسلك يا زوجي ألا تراني أكثر منك حرصا على ما يحمل رحمي 0
فيضحكان كثيرا وتعم الفرحة البيت والجميع بانتظار المولود الجديد بعد حين 0
بعد انتهاء العائلة من تناول طعام العشاء بدأ حسن ينتظر بشكل سريع شرب الشاي لكي يخرج إلى أصدقائه هذه المرة ليس للمشاركة في الغناء فحسب بل لينقل أليهم الخبر السعيد 0
ــ حسن : وين الجاي
ــ حسنة : اليوم مستعجل هسة يجيك
ضحكة والدة حسن كثيرا وهي تقول ها يمه أتريد أتفرح أصدقائك بالخبر ، فيبتسم حسن وتفاجئ من قول والدته وكيف عرفت ذلك ، ثم يصمت قليلا ويحدث نفسه أنها فراسة العربي ، جاءت حسنه بالشاي وشربت العائلة والفرحة قد أخذت منهم مأخذا 0
خرج حسن مسرعا إلى حيث أصدقائه المجتمعين في دار قاسم 0
كانت الأحاديث مستمرة بينهم
ــ عباس : يا جماعة اجه حسن وهو فرحان كلش
ــ قاسم : يمعود قابل أتزوج مرة ثانية
ــ جاسب : ننتظر وصوله ونسمع الخبر اليقين
السلام عليكم قالها وهو فرح ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، رد الجميع التحية ، جلس حسن ، وقال الجميع مساك الله بالخير ، فرد عليهم مساكم الله بالخير ، نراك فرحا مسرورا هل نويت الزواج من الثانية قالوها وهم يضحكون ، لا أبدا فلم يمر على زواجي ألا القليل ، ما بك أذن أفرحنا معك نراك سعيدا اليوم ، نعم يا أصدقائي سأكون أبا قريبا ، ماذا ، نعم فزوجتي حاملا ، مبروك يا حسن ، شنو مستعجل أنت هكذا قالها عباس وهو يمزح 0
ويستمرون بسهرتهم حتى ساعات الليل الأولى فيتهيأ حسن للمغادرة كعادته تاركا أصدقائه في لهوهم ومتعتهم 0
( 9 )
في ساعات الفجر الأولى ينهض سكان الهور من النوم ويتناولون فطورهم وينطلقون إلى أعمالهم
التي تعودوا انجازها كل يوم وقف حسن عند حافة الهور يتأمل شروق الشمس بخيوطها الذهبية الجميلة المنعكسة على صفحة ماء الهور لتشكل لوحة فنية رائعة الجمال ، فروج الماء في الهور بسبب المشاحيف التي تمر وكذلك تكسر هذه الموجات حين تلامس القصب البردي والطيور السابحة في الفضاء أو السابحة في ماء الهور كلها تشكل منظر جميلا خلابا ، ترك حسن هذا المنظر غير بعيد وذهب إلى حظيرة الجاموس وأطلق حيواناته في الهور تسبح وتأكل ثم ركب مشحوفه بعد أن وضع شباك الصيد والفالة ( أداة من الحديد ذات رؤوس مدببة مربوطة بقضيب من الخشب ) انطلق بمشحوفه ليصيد الأسماك ، في المياه الضحلة يتوقف حسن وما أن يرى السمك سابحا يلقي عليه الفالة لتصيب أحدى السمكات ، وفي المياه العميقة يلقي حسن بشباكه في المياه ويغادرها غير بعيد وهو جالس بمشحوفه بهدوء ينتظر ما ستصيد شباكه ، يرى حسن مجموعة من المشاحيف منتشرة على مسافة متباعدة في الهور يقود مشحوفه إلى اقرب المشاحيف أليه ويلتقي بأحد أصدقائه ويأخذهم الحديث عن الصيد والمراعي وحياة الهور الصعبة التي يعيشون فيها يبدي حسن تذمره من هذه المعيشة الصعبة ويعرب عن أمنياته بالعيش في المدينة 0
ــ قاسم : هل تعلم أن عائلة الحاج محمد قد باعت ما تملك وهاجرت إلى بغداد لتعيش هناك
ــ حسن : وماذا سيعمل هناك ، الحياة في المدينة أكثر صعوبة من هنا وتحتاج إلى المال الكثير
ــ قاسم : سيعمل عامل بناء بالأجرة ليوفر قوت عياله
هز حسن رأسه غير راض مما سمع لأنه أيقن انه فلاح ويقتات على ما توفره له الأرض والهور والحيوانات ويؤمن رزقه ورزق عائلته ، ودع حسن صديقه عائدا إلى حيث شباكه وبدأ بسحبها بالتدريج رويدا رويدا وما أن جمعها في مشحوفه بدأ بإخراج السمك منها فرحا بهذا الرزق الوفير ثم غادر الهور متجها إلى داره حاملا صيده في زنبيل وطلب من زوجته أعداده للغذاء كما طلب منها أن ترسل سمكة إلى بيت جيرانه 0
قامت زوجته بشق السمكة وتنظيف أحشائها وغسلها بالماء وتركتها حتى تجف قليلا 0
ثم ذهبت حسنة إلى موقد النار وهو عبارة عن حفرة في الأرض ووضعت فيه كمية من المطال اليابس ( وهو سرجين الجاموس يصنع على شكل أقراص ويترك تحت أشعة الشمس حتى يجف ويستخدم كوقود وإشعال النار ) وضعته في الحفرة وأشعلت عود الثقاب وما أن اشتعل المطال سارعت إلى حيث السمكة ودهنتها بقليل من الدهن ثم غلفتها بورق الصحف ثم غلفتها بالطين كاملة حتى أصبحت السمكة داخل كرة الطين هذه ووضعتها في الموقد وغطتها من جميع الجهات بالجمر المتكون من المطال واستمرت بتأجيج النار بين فترة وأخرى ، غادرت حسنة موقد النار هذا وانشغلت ببعض أمور المنزل وأنجزت أعمالها ثم عادت تنظر إلى الموقد وأزاحت بالعصا قطع الجمر حتى شاهدت أن كرة الطين قد جفت واكتسبت لونها الأبيض وأحدثت فيها النار بعض الشقوق ، أيقنت أن السمكة قد نضجت وتم شيها بشكل جيد وبواسطة قطعة قماش أخرجت كرة الطين هذه وتم تكسيرها وإخراج السمكة ووضعها في صينية تحيط بها قطع الطماطم والخيار من كل جانب ، تم تناول طعام الغذاء من قبل العائلة وهم يتلذذون بها 0
( 10 )
وتمضي الأيام مسرعة ويكبر بطن حسنة تدريجيا تبعا لنمو الطفل فيها وهي لا تزال تزاول عملها المنزلي بهمة عالية رغم أنها في الشهر الأخير والعائلة تنتظر المولود بفارغ الصبر وقد هيئة مستلزمات الطفل مسبقا من الكاروك ( وهو سرير خشبي صغير مثبت بقائمتين خشبيتين وهو يهتز كلما حركوه ) إلى الملابس وغير ذلك 0 كان حسن حين يروم النوم بجانب زوجته ليلا يضع رأسه على بطنها ليسمع حركة الطفل بلهفة ، وكانت حسنة ترتمي بين أحضانه وتضع رأسها على كتفه أحيانا 0
ــ حسنه : ماذا ستسمي ابنك
ــ حسن: لست ادري سأترك ذلك للعائلة
ــ حسنه : كيف ذلك
ــ حسن : سأترك تسميته إلى والدي ووالدتي
وفي الصباح الباكر تخرج العائلة إلى أعمالها ويطلب حسن من والديه أن يهيئوا اسما لولده فيخبراه اختر الاسم الذي يعجبك أنت وزوجتك يا حسن ، لا فرق عندنا يا ولدي ، وينشغل حسن بأمور الحياة وأعماله اليومية ويعود متعبا مجهدا إلى داره عند الغروب وبعد تناول طعام العشاء يبلغ زوجته برأي والديه وعليهما أن يختارا الاسم فتبلغه زوجته أذن اختر الاسم أنت يا زوجي 0
يترك حسن داره وهو يسير ببطء وعند حافة الهور يتوقف يمتع ناظريه بمنظر الغروب وكأنه يراه لأول مرة ينظر حسن إلى الأفق البعيد حيث حافة الهور البعيدة فيشاهد قرص الشمس وهو يلامس الماء في الهور بلونه الأحمر الناري والغيوم اكتسبت لونها من احمرار لون الشمس أيضا كما ويرى لون الماء في الهور قد اكتسب لون الدم الجاري ، ماء احمر ممزوج بالذهبي وألحني والبرتقالي تسر العين حين مرآه ، وقف حسن يتأمل دقة المنظر وحسن أدارة الخالق لهذا الكون وتسخيره للإنسان 0
نعم سأسمي ولدي باسم اخترته ألان وقد أوحى إليّ منظر الغروب به حيث اللون الأحمر يذكرني بدم سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام نعم سيكون اسم ولدي حسين 0
يعود إلى داره ويبلغ زوجته بالاسم وتعاضده في الاختيار ، وتمضي الأيام ويبدأ المخاض الصعب عند حسنه وفي الليل تبدأ الصراخ فتأتيها والدة حسن على عجل وتبلغ حسن بالذهاب سريعا إلى الجدة ( وهي قابلة تقوم بتوليد النساء ) يذهب حسن سريعا وتقوم شقيقاته بتهيئة الماء الساخن وقطع القماش ليكون كل شيء جاهز حين قدوم الجدة 0
وبين صراخ حسنه وطلقاتها وبين قلق العائلة تأتي الجدة لتقوم بالمهمة ، تدخل إلى الغرفة وتطلب من حسنه بأن تسحب نفسا عميق ثم تحاول الدفع بهدوء ، وحسنه يزداد صراخها شيئا فشيئا أما حسن فهو بحركة دائمة ذهابا وإيابا لا يدري ما يفعل وما سيحصل 0
وبين صراخ حسنه وعمل الجدة يخرج الطفل معافى فيسمع حسن صوت صراخ خفيف يعرف انه صراخ الطفل فتخرج شقيقته لتبلغه بولادة الطفل ، ويصرخ حسن فرحا أخيرا جاء حسين فتعم الفرحة الدار 0
فيقوم والد حسن بذبح كبش للمولود الجديد ويوزعون لحمه على البيوت المجاورة لهم قربانا للسلامة وتمام الخلقة 0
( 11 )
ويكبر حسين وقد رضع مع حليب أمه رضع قيم وأخلاقيات المجتمع القروي وتربى على الشهامة وطيب المعاشر وحسن الخلق وتعلم من أبيه ومن مجالس قومه كل المثل الحسنة واستلهم القيم من القصص التي كانت تروى أو كانت تحدث ، نشأ وترعرع وخبر الحياة وهو لا يزال طفل لم يبلغ العاشرة من عمره ، كان ليس كأقرانه من الأطفال فلم يلهو بلهوهم ولم يشاركهم بلعبهم ، كان دائم التجوال مع والده وجده حيث مضيف الشيخ وما يحكى فيه أو حيث مجالس الكبار وما يتحدثون به وكان حسين بفطرته تواقا لسماع قضايا العشائر وعاداتها وقصص البطولة فيها وكانت ذاكرته تخزن كل ما يسمع بدقة ثم يكرر ما سمعه في البيت لوالدته وجدته رغم انه أمي لا يجيد القراءة والكتابة ، كان حسين حاد البصر والبصيرة جيد السمع والإصغاء والحفظ وكان يلجا أليه إقرانه ليعيد عليهم ما سمع من أحاديث في تلك المجالس وكان يقصها عليهم بتفاصيلها ويعبر عنها بانفعالاته وتقاسيم وجهه وكأنه هو المعني بهذه الأحاديث 0
وفي تلك الفترة من حياة حسين حدثت أمور لم تكن في الحسبان بالنسبة لطفل بعمره ، حيث حصل خلاف عشائري بين عشيرتين متجاورتين في السكن بالهور ( السعادنة والجناودة ) وسرعان ما تطورت الأمور واتسعت رقعة الخلاف بينهم بسبب عبور أحدى الدواب إلى مرعى عشيرة السعادنة مما دعا بالراعي أن يكيل الضرب لتلك الدابة محاولا أخراجها من مرعاهم وكان ضربه شديد القسوة مما دعا الراعي من عشيرة الجناودة أن يشحذ هممه وبعصبية واضحة زجر الشخص المعني واشتد الكلام بينهم سب وشتائم واشتباك بالأيدي وصفع راعي الجناودة بكفه على وجه راعي السعادنة 0
تدخل الموجودون لفض النزاع مما ترك مجالا لأحدهم أن يذهب إلى أهله ويبلغهم بما حدث وقد حمل بندقية البرنو العائدة لأبيه وذهب مسرعا إلى حيث صاحبه وهناك صوب البندقية عليه وأطلق رصاصة واحدة أردته قتيلا في الحال ، انتشر الخبر المروع لدى العشيرتين فأنتفض الرجال يحملون أسلحتهم يطلبون الثار من قاتل ولدهم وحملت العشيرة الثانية أسلحتها لتدافع عن نفسها من غضب العشيرة الأخرى وفي لحظة الانفعال لكلا العشيرتين يبدأ الرصاص بالانطلاق من فوهات البنادق البرنو والانكليزية والكسرية وأزيز الرصاص يخترق المسامع وصوته يملئ الأفاق 0
عشيرة تطالب بالثار وتتعالى صيحاتها قتل بقتل لا تبقوا لهم دابة ولا رجال اقتلوا كل من تشاهدوه منهم ، وأخرى تشحذ الهمم وتنخى رجالها امسكوا مواضعكم وأطلقوا رصاصكم صوب كل شيء يتحرك والنسوة تزغرد وتهتف للرجال اليوم يومكم حافظوا على قيم الرجولة دعوا أسلحتكم تتكلم بلغة الموت ، وينطلق صوت الحق من رجل أتعبته السنين وخبرته الحياة اهدؤوا أيها النشامى واتركوا منطق السلاح واستمعوا لمنطق العقل نحن جيران وشركاء في الهور ومتصاهرون فيما بيننا لا تأخذكم عصبية العشيرة وتبعدكم عن العقل الانفعالات ، عودوا إلى رشدكم 0
وتذهب نصائح الرجل أدراج الرياح فلا احد يسمع منطق العقل وبين أزيز الرصاص وزغاريد النسوة وأصوات الرجال المتناخية للقتل ضاع صوت العقل والحكمة ، ويشتد أوار المعركة ويحمى وطيسها وتباد قطعان الجاموس ويقتل الرجال من الطرفين وتراق دماء كثيرة بين قتلى وجرحى وتحرق منازل بمشاعل الحقد العشائري 0
ينتشر الخبر بسرعة الريح ويصل إلى مسامع العشائر الأخرى ويبدأ الأخيار بتشكيل وفد عشائري مشترك ويذهبون إلى حيث المعركة حاملين راية منطق العقل فيهدؤون هذا الطرف وذاك ويوقفون نزف الدم فتصمت البنادق وينسحب الرجال إلى مواقع العقل يستمعون إلى خبرة الشيوخ وعقلاء القوم 0
وتتحول النسوة من الزغاريد إلى الصراخ والبكاء ويزداد العويل عند العشيرتين تلك فقدت زوجها وأخرى أخاها وثالثة ابنها ورابعة فقدت دوابها وتختلط الدموع بالدماء وتطفئ نيران البيوت المشتعلة ويتوقف نهر الدم في الهور لا احد يدري سبب هذه المجزرة من الشيوخ اللذين حظروا كل الذي يعرفوه أن أصوات البنادق تعالت وانطلق رصاصها منذرا بالموت ، تم الاتفاق على الهدنة لمدة شهر واحد فقط لينظر وجهاء الخير الأمر ويحددوا الطرف المعتدي ، وعقد الرأي على أن لا ينشب الخلاف مرة ثانية بين العشيرتين خلال هذا الشهر 0
وما إن هدأت النفوس وانتهت مراسم العزاء على القتلى واستقرار الأحوال بحذر شديد تحركت العشائر التي هدئت النزاع بل أوقفته أول مرة على أمل حله نهائيا بجلسة عشائرية تعطي كل ذي حق حقه ، تحركت خلال هذا الشهر وجمعت المعلومات واستمعت إلى الشهود وأحصت عدد القتلى لكل عشيرة كما أحصت عدد ما نفق من الدواب لكل عشيرة وأحصت عدد الدور المحروقة ومجمل الخسائر فيها كل ذلك بتوثيق سليم محايد 0
عقد شيوخ العشائر ممن أوقفوا الصراع عقدوا الرأي على حل الخلاف بين العشيرتين بشـــكل
نهائي وحددوا يوم الجمعة القادم موعدا للفصل العشائري ووجهوا الدعوة للعشيرتين للحضور لإنهاء هذه القضية 0
ألا أن عشيرة السعادنة أصرت أن يكون الفصل العشائري في مضيف شيخها لان الصراع بدأ بعد أن قتل الجناودة احد رجالها وان قطرات الدم التي سالت والروح التي أزهقت لابد أن تحترم وعلى المعتدي تحمل النتائج 0
نعم لكم الحق بذلك لكن الطرف الأخر قد قدم القتلى وأصابه ما أصابكم ونحن نسعى لوأد الفتنه بين الطرفين ، أذن عليكم بالجناودة أجبروهم بالجلوس في ارضنا ودفع الفرشة مقدما ( الفرشة هو مبلغ من المال يدفع قبل الفصل العشائري لكي يهيئوا وجبة الطعام ومستلزمات البيت المعد للفصل العشائري ) أو سيواجه الموت الزؤام 0
غادر الوفد العشائري إلى عشيرة الجناودة وابلغوهم بموعد الفصل العشائري وعليكم أيضا دفع الفرشة إلى السعادنة لتهيئة أمور الفصل العشائري 0
انتفض شباب الجناودة منزعجين من هذا الطلب غير راضين لأنه دليل على اعتدائهم على السعادنة ، انتفضوا يحملون أسلحتهم بأيديهم يلوحون بها كأنهم يسعون إلى شر مستطير ، ما كان من الوفد العشائري ألا أن يوبخهم لهذا السلوك المشين في حين أن شيوخ الجناودة قبلوا بذلك بشرط أن يضمنوا حقهم أيضا 0
( 12 )
كان من بين المتضررين من هذه المعركة عائلة حسن حيث قتل غالبية قطيع الجاموس الذي يملكون ونكبت العائلة نكبة كبرى وعم الحزن فيها واخذ منهم مأخذا كبيرا 0
وتتضاءل مصيبتهم أمام مصيبة باقي العشيرة حيث نكبة بعض العوائل بفقدان أبنائها قتلى في معركة لا تستوجب كل هذه الخسائر، وبدأ والد حسن يصبر العائلة ويشحذ فيهم روح الإيمان ويقوي عزيمتهم لمواجهة هذه الخسارة رغم انه كان ينزف من الألم والحسرة ويكتم ذلك داخل نفسه حتى اعتراه المرض 0
وبين عويل النساء وحزنهنّ وبين انفعالات حسن وتوعده بالانتقام ، كان والده يكظم الغيظ وينصحه بان لا تأخذه العزة بالإثم وكان يؤكد عليه اترك ذلك للعشيرة فهي تتصرف بالحقوق وتقرها كما وعد شيخنا وان المفاوضات جارية بين العشيرتين عن طريق وسطاء الخير من شيوخ العشائر الأخرى وسيأخذ كل ذي حق حقه ، كان يحدث ولده حسن يذلك وهو يتحرق حزنا من داخله على ما أصابه وكان يتساءل هل سيعيد الوسطاء لهم ما خسروه 00 اشك بذلك 0
وتمضي أيام الهدنة ثقيلة على كل ذي مصيبة من كلا العشيرتين ، هل سيحسم الخلاف أم سيعود الموت من جديد أذا ما فشلت مساعي الخير هذه ، هل ستكفن أسلحتنا بقطع القماش وتترك في مخابئها أم ستعود بعد شهر لتتكلم بلغة النار والموت من جديد 0
تساؤلات مشروعه لكل من فقد ابن وأخ وحفيد أو خسر قطيع من الجاموس مصدر رزقه وكل ثروته 0
وبدأ أصدقاء حسن يتجمعون ثانية عند المساء لكن عددهم لم يكتمل حيث قتل قاسم في هذه المعركة بين الطرفين مما ضاعف حزن حسن لفقده صديقه واقرب الناس أليه تجمعوا ثانية والحزن يخيم على الجميع وفقدوا لغة الفرح والطرب واستعاضوا عنها بلغة الحزن والألم
ــ جاسب : آه يا حسن لقد فقدنا قاسم
ــ عباس : خسرنا اعز الأصدقاء يا حسن
ــ حسن : ( والدموع تنهمر من عينيه ) آه يا غدر الزمان ويا حوادث الشؤم لقد أخذتي منا اعز الأحباب
وتحولت سهرتهم إلى عزاء جديد وأصابهم الحزن بسهامه وتعالى بكائهم وانهمرت دموعهم وشقت عنان السماء صرخاتهم وكأن الأنين أصبح لغتهم التي بها يتحاورون 0
سمعت النسوة أصواتهم وصرخاتهم وقالت أحداهنّ وهل يبكي الرجال ، إجابتها الأخرى يبكون ولأبسط الأسباب فكيف بمن خسر صديق عمره ورفيق حياته وقمر سهرتهم 0
نعم كان قاسم عقل ذو حكمة وهدوء يشوبه الحذر لا يتكلم ألا بمقدار ولا يصمت ألا حين يتوجب عليه الصمت كان حليما ودودا يزن كلامه قبل أن يخرج من شفتيه ولا يجامل على حساب الحق إن اغلب نساء القرية يتمنين أن يكون قاسما زوجا لهنّ وكنّ جميعا يمنين النفس به ويحسدنّ أي فتاة سيختارها زوجة له ، سبحان الله عاجلته يد المنون فبكته النساء قبل الرجال فكيف بأصدقائه الذين وقع عليهم الحمل الثقيل 0
ويتحول أصدقائه من أغاني الفرح والسرور إلى أغاني الحزن والبكاء ، غناء مصحوب بأنين ، وانين مصحوب بدموع ، ودموع مصحوبة بألم وحسرة وفراق 0
اختفت الصورة المشرقة أما أنظارهم ولم يبقى لديهم ألا صورة سوداوية حزينة ينظرون أليها وبدأ الجمع ينفض بين الأصدقاء بالتدريج وغادروا المجلس لهذا اليوم على أمل اللقاء غدا ، وغدا بالنسبة لهم ربما يكون وقعه عليهم أفضل من سابقه ، أمنيات أصدقاء قد لا يغير منها الزمن شيء وخاصة أن الجرح الذي يعانون منه لا زال لم يندمل بعد وان حالة الحزن ورائحة الدم والموت لازالت تزكم الأنوف في الهور وذكريات وصور الأحبة لا زالت تداعب مشاعر الجميع رجالا ونساء فهل يأتي الغد بشيء جديد يسرهم ؟0
ومع ازدياد ظلمة القرية التي تفتقد إلى الكهرباء ومع ظلمة النفوس التي تقاسي منها الناس ألقى حسن يجسده المتعب على فراش الزوجية ربما يستريح بعض الشيء وتهدأ عنده الهواجس وهو يحتضن جسد زوجته ومستودع همومه والقلب الذي يلهمه الصبر والأمان ، وما أن لامس جسده الفراش ليريح جسده المتعب وأغمض عينيه باسترخاء حتى راودته الأوهام وتمثلت أمامه الأوجاع وإذا به يرى قاسم واقف أمامه ينظر أليه يحاكيه ما بك أيها العزيز ، أ تسألني ما بيّ وان فراقك احرق لي الأحشاء 0
وبدأت الصورة أمام ناظريه تبتعد شيئا فشيئا حتى تلاشت وإذا الدموع تنهمر من حسن بغزارة وهو يصرخ بأعلى صوته ( قاسم 00 قاسم لا تتركني وحيدا أقاسي ) وقد نهض مفزوعا من فراشه وقد أمسكت به زوجته وهي تقول حسن 00 حسن لا تبتئس كابوس ويزول وقد كان رأس حسن على كتفها وشعرت بالدموع الساخنة التي نزلت لتبلل منها الثياب 0
[img][img]وليد زيدان أللهيبي
الإهـــــــداء
ــ إلى أبطال الزمن الصعب
ــ إلى زوجتي ورفيقة الدرب
ــ إلى كل الذين وقفوا معي بلا تعب
وليد زيدان أللهيبي
( 1 )
ولد حسن في جنوب العراق وفي احد الأهوار في محافظة ميسان عام 1926 م من عائلة فقيرة لا تملك من متع الحياة ألا الشيء القليل ، في هذا الهور الميساني تكمن صعوبة الحياة حيث لا يصل إليهم التطور وتقنياته أبدا ويعاني الهور من عدم توفر الماء النقي والكهرباء والمراكز الطبية والمدارس وغير ذلك 0
كل سكان الهور يعيشون في جهل واسع والأمية منتشرة بشكل كبير ونادرا ما تجد من يجيد القراءة والكتابة ، كل ما يعرفه سكان الهور هو تربية الجاموس والصيد وقطع القصب واستخدامه في بناء الدور أو إعطائه كعلف لحيواناتهم كانوا يعيشون حياة بسيطة بدائية صعبة يعانون فيها من سوء الصحة والجهل 0
تزوج حسن من امرأة من سكان الهور أيضا وهي أقربائه كان ذلك عام 1944 م وأقيم الاحتفال بهذا الزواج حيث أعدت الزوارق التي تسمى المشحوف وانطلقت تشق مياه الهور تسير بطريق متعرج ذات اليمين وذات اليسار تحمل النساء والرجال وهم ينشدون الأغاني ويرقصون ويطلقون الأعيرة النارية في فضاء الهور إلى أن وصلت المشاحيف دار العروس وهناك تم دخول دارها واصطحابها إلى احد المشاحيف ، أجلسوها فيه تحيطها النسوة وانطلقوا إلى حيث دار حسن ، النسوة تزغرد وتصفق وتغني وترقص فرحا والعروس صامتة مطأطئة الرأس والدموع تسيل على خديها حزنا على فراق الأهل والأحبة 0
( 2 )
رغم أن المسافة غير كبيرة بين الدارين ألا أن فراق الأهل عند العروس اثر فيها كثيرا أو ربما هو الحياء والخجل من هذه الليلة هو السبب لان سكان الهور ترعرعوا على الأخلاق الحميدة الفاضلة من العفة والشرف والكرامة ويربطهم بالأسرة روابط الحب والحنان 0
وصل موكب العرس بكل زوارقه إلى دار العريس الذي كان يلبس الزى العربي الجميل والكوفية والعقال ، كما أن رجال الهور المشاركين بالاحتفال يلبسون أفضل ما عندهم من الملابس ليظهروا بقيافة جميلة تشد الناظر أليهم وخاصة من النساء ، ونساء الهور يرتدين الملابس البراقة ذات الألوان الجميلة الزاهية التي تسر العين عند مرآها 0
في هذا الجو البهي من الفرحة والمتعة والسرور وبين زغاريد النسوة ورقصهنّ وغنائهنّّ وبين الأعيرة النارية المنطلقة من البنادق القديمة عند الرجال يزف حسن على عروسه وذلك بعد انتهاء تناول طعام العشاء للمحتفلين ، يزف حسن على عروسه الجالسة في احد غرف الدار المصنوع من القصب البردي بإتقان وذوق 0
دخل حسن في غرفته فوجد عروسه تحيط بها بعض النسوة لتسليتها وأزالت شبح الوحشة عنها لأنها فارقة لأول مرة عائلتها والديها وأخوتها وأخواتها ، دخل حسن فرحا مزهوا على عروسه فانسحبت النسوة بهدوء من الغرفة 0
في هذه اللحظة أمسكت العروس يد والدة حسن محاولة إبقائها معها ويدها ترتجف خوفا
ــ والدة حسن : اشبيج يمه لتخافي هذا رجلج بشرع الله
ــ العروس : ( بصوت خافت مرتعش) ابقي وياي اليوم
طمأنت والدة حسن العروس ببعض الكلمات وغادرت الغرفة ليبقى العريسان وحدهما حبيسا الجدران والقلق 0
حسن قلق من موقف زوجته في يومها الأول وارتباكها الواضح 0
الزوجة قلقة من هذه الليلة التي لا تعي ما سيحدث لها مع زوج رأته لأول مرة 0
( 3 )
انفض العرس وغادر رجال ونساء القرية إلى دورهم بمشاحيفهم فرحين مسرورين 0
أما شباب القرية الهورية فقد تجمعوا في دار احدهم يتسامرون كعادتهم بالغناء الريفي الجميل وهم يحتسون الشاي تارة والقهوة العربية تارة أخرى 0
وبماذا يتحدثون اليوم بعد الغناء والطرب ، وهل لديهم غير حدث الساعة ( زواج حسن ) 0
لقد كان عرسا مميزا بكل تفاصيله بساطته وغناءه وأزيائه الرائعة وكذلك حجم الحاضرين من الرجال والنساء ، قال ذلك احدهم فأنتبه اليه باقي الشباب ، وماذا بعد ، لا شيء لقد كان عرسا عربيا رائعا ،
ــ جاسب : شتكولون اليوم حسن يدبرها
ــ قاسم : شلكيته غشيم
ــ جاسب: يمعود خاف يخجلنه
ــ عباس : لتخاف أخويه خاف على نفسك ترة حسن ذيب
ضحك الجميع من الأعماق وهم ينتظرون بشرى ما ينجزه حسن في ليلة زفافه 0
ويستمر شباب القرية بالحديث فيما بينهم ويتمنون الزواج هم أيضا 0
يا جماعة والله شفت أبنية حلوة وتمنيتها تكون زوجتي ، منو هاي ، ما ادري ، بس شاورت امي عليها ، وشكالت امك ، ما عرفتها وكالت اليوم اسأل عليها ، أجابه الأخر بعد شتريد أمورك عدله 0
وفاجئهم صاحبهما حين قال نساء القرية أخواتنا وبنات عمومتنا والواجب أن لا نمس أحداهنّ بسوء ، أي سوء تتحدث عنه يا عباس ، إنكم تلوكون بسيرة فتاة من القرية ، ألا ترى انه صادق بحديثه حين اخبر والدته عنها ، قال الآخر ألا تعتقد يا عباس أن جاسب يسعى للزواج منها وألا ما كان ليخبر والدته عنها لتعرف من هي ثم ترتب الأمور الأخرى 0
نعم صدقتما والله لكني اشعر بإحراج ماذا لو كانت تلك الفتاة أخت واحد منا هل سنتحدث عنها بنفس الطريقة 0
ولكي يغير جاسب الموضوع بدأ بالغناء وشاركوه هم أيضا فرحين 0
( 4 )
اختلى حسن بعروسه بالغرفة المشيدة من القصب في الدار الذي تحيطه مياه الهور من كل جانب تلك الغرفة التي ستولد فيها أسرة جديدة تقدم باتجاه زوجته بهدوء ووقف أمامها وهي جالسة على سرير النوم بثوب العرس الأبيض والبرقع يغطي وجهها وهي مطأطئة الرأس خجلة ، مد يده ليرفع عنها البرقع كي يرى وجهها الجميل الذي تشوق كثيرا لرؤيته وبلهفة الزوج في يومه الأول ألا إنها ابتعدت قليلا إلى الوراء ولم يتمكن ومن رفع البرقع 0
ماذا بكِ أنا زوجك على شرع الله ونحن لم نرتكب أمرا مخالف لتعاليم الإسلام ، جلس بجانبها ومسك يدها بلطف ورقة ، حاولت سحب يدها وهي مرتبكة ومرتعشة الجسد ، امسك يدها بقوة وهو يقول أنتِ زوجتي ألان يا حسنة والأهل خارج الغرفة ينتظرون البشرى في هذا اليوم ثم أنا رجل ولا ارغب أن أكون أضحوكة لأهل القرية حين لا أحقق رغبتي منكِ وأ أخذ ما احل الله لي 0
نهض وهو ممسك بيدها وسحبها بقوة وأنهضها من مجلسها وضمها إلى صدره بقوة وأحاطها بذراعيه ، ثم رفع البرقع عن وجهها ورأى وجهها المشرق الجميل الخجل ، ثم داس بقدمه على قدمها بقوة ليشعرها أنها تحت سيطرته منذ ألان إلى أن يفعل الله أمرا كان مفعولا وهذا تقليد لدى العشائر القروية والريفية 0
لازال يحيطها بذراعيه وقرب وجه من وجهها فشعرت بأنفاسه 0
ثم قبلها من شفتيها برغبة عارمة وشهوة جياشة دون أن تبادله نفس الشعور فشعر انه اغتصب منها هذه القبلة اغتصابا 0
في حين كانت حسنة قد أصابها الخجل واحمرت وجنتيها وبدأ جسدها بالارتجاف حينها شعرت انه لا مفر منه وانه سيأخذ ما يريد ، ألقى بها على السرير وخلع ملابسه وانزعها ملابسها عنوة ومن حيائها وخجلها جمعت جسدها وجلست على شكل القرفصاء وكلما تقدم حسن منها انسحبت قليلا ، أدرك حسن انه لا محالة اليوم ويجب أن يحقق ما يريد وفعلا تمكن منها واشبع غريزته وشعر لأول مرة بلذة الزواج والمتعة 0
لبس ملابسه البيضاء وخرج فرحا
والدته : ها يمه بشر
حسن : انتهى كل شي
ما كان من الأم ألا أن تطلق الزغاريد وهي تسير باتجاه غرفة العروس وحين وصلتها قبلتها وهي تنظر إلى قطعة القماش الأبيض الملطخ بقليل من الدم ، حملت والدة حسن تلك القطعة من القماش وخرجت بها إلى النسوة الحاضرات فازدادت الزغاريد وقام والد حسن بإطلاق الأعيرة النارية في فضاء الهور ، نعم عمت الفرحة الجميع كون أنجز حسن ما أراد وكذلك كون زوجته كانت باكرا 0
ــ جاسب : شنو هاي الطلقات وين مصدرها
ــ قاسم : باتجاه دار حسن
ــ عباس : موكتلكم حسن ذيب سوه ليريده
قالوا ذلك وهم يضحكون فرحين لصديقهم وواصلو سهرتهم الغنائية بشغف اكبر 0
( 5 )
وفي الصباح هيأت والدة حسن الفطور للعروسين وهو قيمر عربي وحليب وشاي وخبز حار وبعد أن أتما فطورهما خرج حسن وزوجته وسلموا على أفراد العائلة وقبل حسن يد والده كما قبل رأس والدته ، ثم قبلت حسنه يد والد حسن وقبلت رأس عمتها وسلمت على جميع الحاضرين وبدأت تنهال عليها المبالغ النقدية من الجميع أكراما لها أن هذه الوكعة ( مبلغ من المال يعطى للعروس من أفراد العائلة والأقرباء ) تقليد ساري المفعول إلى يومنا هذا ليس في القرى والأرياف في الجنوب بل وفي كل مدن ومحافظات العراق من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب 0
وتستمر الفرحة بدار حسن ولا زالوا يستقبلون الضيوف وينحرون الذبائح أكراما لمن جاء محبا ومباركا ، لم يألف حسن الجلوس في البيت حبيس الجدران هكذا بلا عمل لكنها الضرورة القصوى التي أرغمته على ذلك وهو قد اشتاق إلى أصدقائه كثيرا اشتاق إلى أيام المزاح والغناء والمقالب التي كان يصنعها لهم 0
وتمر الأيام الأولى من الأسبوع ويحين موعد حفلة السبعة التي تقيمها العائلة بمناسبة مرور سبعة أيام على الزواج فيعدون العدة لذلك وينحرون الذبائح ويهيئون الطعام والحلوى والعصير ويدعون نساء القرية لهذه الحفلة ، جاءت النساء وهنّ يرتدينّ أجمل الثياب في الموعد المحدد والزغاريد تملئ المكان جلسنّ في حلقة أعدت لذلك وبين تصفيقهنّ والزغاريد يخرج أليهنّ قمر يمشي بساقين ، قالت إحداهنّ شوفوا حسنة صايرة كمر وانتبهنّ جميعا ينظرن أليها وهي تمشي بهدوء وترتدي ثوب جميل جدا ، جلست في مكانها المحدد بعد أن سلمت على جميع النسوة ، وكانت النسوة بين الغناء والزغاريد والرقص وبين مداعبة العروس بخفة لإضحاكها ، وبين فترة وأخرى تنهض حسنة من مكانها وتذهب إلى غرفتها وتعود أليهن من جديد ولكن بثوب آخر جديد أيضا وتستمر بهذه العملية وتغير الثياب عدة مرات كي ترى النساء أثوابها الجميلات وهذا تقليد آخر اعتادت عليه العوائل العراقية أيضا 0
استغل حسن هذا اليوم للخروج قليلا إلى حيث أصدقائه تاركا البيت بمن فيه من النسوة لكي يكملنّ حفلتهنّ ، انطلق إلى حيث يجب أن يكون أصدقائه ومن بعيد سمع صوت عنائهم وضحكهم وشيء فشيء تقرب منهم حتى وصل على مقربة منهم ، شاهدوه وهو قادم بزورقه أليهم أوقفوا الغناء وساد المكان صمت غريب
ــ جاسب : لقد جاء حسن
ــ عباس : لقد اكتمل مجلسنا اليوم
السلام عليكم ، وعليكم السلام بمن كسر حاجز العزوبية وتزوج وتركنا ها هنا قاعدون 0
قالوها وهم يضحكون ، لكم يوما تكسرون به هذا الحاجز قالها وهو يتقدم باتجاههم فأخذوه بالأحضان فرحين مسرورين 0
ــ قاسم : شلون أيام العرس حلوة
ــ حسن : ليش اكو مثل حلاتهه
ويستمرون بالغناء تارة وبالمزاح مع حسن تارة أخرى ويأخذهم الحديث وتمضي الساعات سريعة جدا فتغيب الشمس دون ان يشعروا بذلك ونسى حسن انه متزوج وان في الدار امرأة تنتظر عودته 0
ــ حسن: لقد أخذنا الوكت يا جماعة الخير اسمحوا لي بالمغادرة
ــ عباس لقد اشتغلت أوامر وزارة الداخلية ( الزوجة)
ــ قاسم : اذهب يا صديقي وكن حذرا من حساب الزوجة
ضحك الجميع ، غادرهم حسن مسرعا وحين وصل إلى الدار وجده خاليا من الضيوف حيث أن الحفلة قد انتهت منذ وقت بعيد ، وما أن دخل غرفته قالت الزوجة سلامات حسن وين هل الغيبة ، ضحك حسن وقال أدركني الوقت مع أصدقائي ، أذن لماذا تضحك ، لاشيء لا شيء قالها ولا زال يضحك ، اضحكني معك يا رجل ، لقد قال أصدقائي حين حاولت الخروج اذهب إلى أوامر وزارة الداخلية أي أنتِ ، ضحكت حسنه بملئ فمها وقالت لعد شلون غير بالي يمك ، لازم اشتاكيتيلي ، حسن أنت زوجي ولازم اقلق عليك مو بس اشتاكلك 0
( 6 )
انتهت أيام العرس السبعة وكان واجبا على حسن أن يعود إلى عمله المعتاد وهو اخذ الجاموس وإطلاقه في المراعي لترعى من الأعشاب الطبيعية والقصب البردي ثم العودة بها عصرا إلى الحظيرة المعدة لذلك قرب دارهم واستخراج الحليب من إناث الجاموس 0
ومن واجباته أيضا الخروج إلى الهور بمشحوفه ليصطاد الطيور المائية بواسطة البشتاوة وهي بندقية تصنع يدويا من أنبوب معدني وقطع الخشب ويوضع فيها البارود والكرات المعدنية الصغيرة ( الصجم ) ويتم أطلاقها عبر فتيل خاص 0 أو صيد السمك بواسطة الشباك المعدة لهذا الغرض ورحلة الصيد هذه فيها متعة جميلة إضافة لكسب الرزق منها 0
أما العروس حسنة فقد انتهت مدت دلالها بانتهاء الأيام السبعة وأصبح واجبا عليها العمل أيضا ضمن أطار الأعمال المنزلية وغيرها من تنظيف وغسل الأواني والملابس وصنع الخبز وطهي الطعام وصنع القيمر العربي أو الركوب بالمشحوف وقطع القصب البردي وجلبه إلى البيت كل هذا وغيره هو من واجبات المرأة في هذه القرى وسط الهور 0
نهضت حسنة منذ الصباح الباكر وجمعت بيض الدجاج وهيئة الصاج وأوقدت النار كما جلبت كمية من طحين ألتمن ( الرز ) وبدأت بخلطها بالماء وفق قياسات معلومة لديها حتى أصبح السائل ذو قوام متماسك ، وضعت الصاج فوق النار وما أن بدأت الحرارة تأخذ طريقها وأصبح الصاج شديد الحرارة بدأت حسنة بسكب كمية من سائل الماء وطحين ألتمن وبدأت بسكبه فوق الصاج وكلما نضج القرص رفعته ووضعت غيره وبذلك أصبح خبز السياح جاهزا لتناول الفطور مع بيض الدجاج المقلي بالدهن الحر ( السمن البلدي ) وهو وجبة الإفطار المحببة عندهم 0
ثم بدأت بالأعمال الأخرى تباعا يعاونها بذلك شقيقات حسن ووالدته ، ثم أن الحياة وسط الهور رغم صعوبتها والمشقة التي فيها فهي محببة عندهم لأنهم اوجدوا لهم فيها الراحة والمتعة والغناء حتى أثناء ممارسة العمل ، وان الأعمال موزعة على الجميع والكل حريص على انجاز عمله بإتقان 0
( 7 )
بعد انتهاء العمل وتناول طعام العشاء يبدأ الرجال بالتزاور فيما بينهم ويكون مكان السهرة معلومة لديهم أي في أي بيت سيلتقون ، فكبار السن من الرجال ممن تجاوز الأربعين عاما وأكثر أو اقل بقليل يتوافدون عند مضيف الشيخ ، المضيف مبني من القصب البردي ومشيد على مساحة واسعة من الأرض فحزم القصب الكبيرة المتلاقية في الأعلى تشكل أقواسا جميلة وهي يعتمد عليها في أنشاء باقي المضيف ويوجد في مقدمة المضيف عند مدخله يوجد الاوجاغ وهو مربع مبني من الطابوق ذو ارتفاع قليلا جدا توقد فيه قطع الخشب أو الفحم ويضع فيها دلال القهوة العربية السبعة من الحجم الكبير المسمى القمقم إلى الأصغر فالأصغر حتى دلة تقديم القهوة ويعمل بالمضيف رجل مختص بصناعة القهوة وتقديمها يسمى الكهوجي ، هناك طريقتان لتقديم القهوة العربية إلى الضيوف الأولى ( الكص ) وتعني أن يبدأ القهوجي بتقديم القهوة من جهة اليمين إلى آخر شخص موجود من الضيوف حيث يسكب كمية قليلة جدا في الفنجان ويقدمها للضيف وتتكرر العملية إلى أن يكتفي الضيف من احتساء القهوة وبذلك يعيد الفنجان إلى القهوجي مع هزه بيديه أما الطريقة الثانية فهي ( الخص ) وتعني أن يشخص القهوجي شخصا معينا كأن يكون من السادة الأشراف أو شيخ عشيرة أو مسؤولا بالدولة فيبدأ به بتقديم القهوة ويستمر بتقديمها الى يمينه حتى يصل إلى آخر ضيف موجود 0
في هذا المضيف يتسامرون بالحديث ويستمعون إلى قصص البطولة والطرائف وقصص الحكمة كما يتداولون بشؤون العشيرة وأحوالها وهم يحتسون القهوة العربية ويقوم شيخ العشيرة بفض الخلافات بين أبناء العمومة أن وجدت والكل يرضى بحكمه لأنه نابع من سريرة نقية ومكتسب من خبرة الدواوين 0
أما الرجال الأصغر سنا والشباب فيتجمعون عند اقرأنهم يستمتعون بالغناء الريفي وحوارات الشباب وقصص الحب العذري التي يعاني منها بعضهم وطموحات ليس لها حدود ولا إمكانية للتحقيق بسبب الجهل والفقر والأمية التي ضربت أطنابها في مجتمعهم 0
وبما أن حسن هو العريس الجديد بينهم فقد بدئوا بالمزاح معه
ــ قاسم : أي حسن احجينه الزواج شلونه
ــ جاسب : ( وهو يضحك ) يكولون عسل في عسل صدك هذا الحجي
ــ حسن : الزواج استقرار وراحة بال
ــ عباس : أي احجينه وبعد شبي الزواج
ــ جاسب : يعني انت غشيم متدري حسن بيوم الزواج اشسوة
ضحك الجميع بطيبة خاطر ، بدأ الغناء ينطلق من حنجرة قاسم يشاركه أصدقائه بالتصفيق الهادئ ودك الاصبعتين المصحوب بحركة الساق البسيطة والفرحة تعم الجميع وساعات الليل تمضي سريعة ثم شعر حسن بأن الوقت قد مر وقد تأخر بالعودة إلى زوجته التي تنتظر قدومه ، استأذن من أصدقائه ليعود إلى حيث داره ، هذه واحدة من مساوئ الزواج أن تغادرنا سريعا ، اتركوا الرجل ليذهب فلم يعد أعزب ، نعم أصبح لديه من يسأل عنه ويقلق عليه 0
غادرهم حسن فرحا مسرورا وهو يسير ببطئ نحو داره ، في الدار زوجته دخلت غرفتها وهيئة نفسها لزوجها من الماكياج البسيط الريفي إلى الملابس الجميلة التي ارتدها ، دخل حسن دارهم وألقى التحية على الموجودين ثم دخل غرفته وما أن تقدم داخلها استقبلته زوجته وارتمت بأحضانه بلهفة وشوق عارمين وتبادلا القبل وقوفا يشعر كلا منهم بحنان الثاني وعاطفته حتى ارتعشت أوصالهما فتقدما إلى السرير وهما يحتضن كل واحد منهم الآخر واستلقيا عليه ولهفة الشوق تهزهم ومتعة الجنس أخذت منهم مأخذا كبيرا حتى أتما ما رغبا به ، وبدأ حسن يحدثها عن أصدقائه ومزاحهم والغناء الذي يعشقوه وبادلته هي عن ما أنجزته في البيت من أعمال وما تحدثت به مع شقيقاته وهي تعيش اسعد لحظات عمرها في بيت يقدرها وزوج مولع بحبها حريص على سعادتها يسعى دائما لإرضائها 0
( 8 )
وتمضي الأيام سريعة وتنتهي الأشهر الثلاث الأولى وتبدأ حسنة تتغير حيث يصيبها الدوار ( الدوخة ) باستمرار وتبدأ بالقيء وهي مجهدة ، لفت ذلك نظر والدة حسن وبدأت تسأل حسنه بعض الأسئلة التي تتعلق بالنسوة وحسنة تجيبها بنعم ، ابتسمت والدة حسن وهي تقول لها مبروك يمة ، فتجيبها حسنه عمة أني مريضة وأنتي تكولين مبروك ، لا يمة أنتي حبلة وبشري حسن اليوم خلي يفرح 0
بدأت حسنة تعد الساعات عدا حتى أصبحت تلك الساعات من أثقل ساعات عمرها وهي تنتظر عودة حسن لتخبره بالخبر السعيد وتبدأ حسنه بالتحرك ذهابا وجيئة عسى ترصد عينيها قدوم زوجها ، كانت حسنة ترصد الطريق وعينيها معلقة بالهور وتتساءل مع نفسها متى سيأتي المشحوف متى يأتي حسن 0
وتتعب من الرصد والترقب كما تعبت من حساب الساعات الثقال وتخلد إلى النوم في غرفتها وعلى حين غرة يدخل حسن عليها وتصيبها المفاجئة ، تنهض مسرعة تقف أمامه بذهول والابتسامة على وجهها ، ماذا بك يا زوجتي ، فتصمت وهي تنظر إلى عينيه كأنها تراهما لأول مرة ، فيضع حسن يديه على كتفيها ويهزها بلطف وهو يقول ما بكِ يا حسنة ، فتجيبه خبر سار ، أليّ به ، أ تعطيني البشارة ، نعم أعطيك البشارة فما هو ، فتجيبه وما هي البشارة التي ستعطينني إياها ، يضحك حسن ويقول قبلة من شفتيك العذبتين ، أذن أنا حامل يا حسن ، يضمها بين ذراعيه ويقبلها من شفتيها بفرحة عارمة ليس لها حدود وهو يردد سأكون أبا سأكون أب 0
اهتمي بنفسك ، لا تتعبي نفسك بالعمل ، تناولي الطعام باستمرار ، حافظي على ما في رحمك وتبدأ الوصايا تنهال عليها ، على رسلك يا زوجي ألا تراني أكثر منك حرصا على ما يحمل رحمي 0
فيضحكان كثيرا وتعم الفرحة البيت والجميع بانتظار المولود الجديد بعد حين 0
بعد انتهاء العائلة من تناول طعام العشاء بدأ حسن ينتظر بشكل سريع شرب الشاي لكي يخرج إلى أصدقائه هذه المرة ليس للمشاركة في الغناء فحسب بل لينقل أليهم الخبر السعيد 0
ــ حسن : وين الجاي
ــ حسنة : اليوم مستعجل هسة يجيك
ضحكة والدة حسن كثيرا وهي تقول ها يمه أتريد أتفرح أصدقائك بالخبر ، فيبتسم حسن وتفاجئ من قول والدته وكيف عرفت ذلك ، ثم يصمت قليلا ويحدث نفسه أنها فراسة العربي ، جاءت حسنه بالشاي وشربت العائلة والفرحة قد أخذت منهم مأخذا 0
خرج حسن مسرعا إلى حيث أصدقائه المجتمعين في دار قاسم 0
كانت الأحاديث مستمرة بينهم
ــ عباس : يا جماعة اجه حسن وهو فرحان كلش
ــ قاسم : يمعود قابل أتزوج مرة ثانية
ــ جاسب : ننتظر وصوله ونسمع الخبر اليقين
السلام عليكم قالها وهو فرح ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، رد الجميع التحية ، جلس حسن ، وقال الجميع مساك الله بالخير ، فرد عليهم مساكم الله بالخير ، نراك فرحا مسرورا هل نويت الزواج من الثانية قالوها وهم يضحكون ، لا أبدا فلم يمر على زواجي ألا القليل ، ما بك أذن أفرحنا معك نراك سعيدا اليوم ، نعم يا أصدقائي سأكون أبا قريبا ، ماذا ، نعم فزوجتي حاملا ، مبروك يا حسن ، شنو مستعجل أنت هكذا قالها عباس وهو يمزح 0
ويستمرون بسهرتهم حتى ساعات الليل الأولى فيتهيأ حسن للمغادرة كعادته تاركا أصدقائه في لهوهم ومتعتهم 0
( 9 )
في ساعات الفجر الأولى ينهض سكان الهور من النوم ويتناولون فطورهم وينطلقون إلى أعمالهم
التي تعودوا انجازها كل يوم وقف حسن عند حافة الهور يتأمل شروق الشمس بخيوطها الذهبية الجميلة المنعكسة على صفحة ماء الهور لتشكل لوحة فنية رائعة الجمال ، فروج الماء في الهور بسبب المشاحيف التي تمر وكذلك تكسر هذه الموجات حين تلامس القصب البردي والطيور السابحة في الفضاء أو السابحة في ماء الهور كلها تشكل منظر جميلا خلابا ، ترك حسن هذا المنظر غير بعيد وذهب إلى حظيرة الجاموس وأطلق حيواناته في الهور تسبح وتأكل ثم ركب مشحوفه بعد أن وضع شباك الصيد والفالة ( أداة من الحديد ذات رؤوس مدببة مربوطة بقضيب من الخشب ) انطلق بمشحوفه ليصيد الأسماك ، في المياه الضحلة يتوقف حسن وما أن يرى السمك سابحا يلقي عليه الفالة لتصيب أحدى السمكات ، وفي المياه العميقة يلقي حسن بشباكه في المياه ويغادرها غير بعيد وهو جالس بمشحوفه بهدوء ينتظر ما ستصيد شباكه ، يرى حسن مجموعة من المشاحيف منتشرة على مسافة متباعدة في الهور يقود مشحوفه إلى اقرب المشاحيف أليه ويلتقي بأحد أصدقائه ويأخذهم الحديث عن الصيد والمراعي وحياة الهور الصعبة التي يعيشون فيها يبدي حسن تذمره من هذه المعيشة الصعبة ويعرب عن أمنياته بالعيش في المدينة 0
ــ قاسم : هل تعلم أن عائلة الحاج محمد قد باعت ما تملك وهاجرت إلى بغداد لتعيش هناك
ــ حسن : وماذا سيعمل هناك ، الحياة في المدينة أكثر صعوبة من هنا وتحتاج إلى المال الكثير
ــ قاسم : سيعمل عامل بناء بالأجرة ليوفر قوت عياله
هز حسن رأسه غير راض مما سمع لأنه أيقن انه فلاح ويقتات على ما توفره له الأرض والهور والحيوانات ويؤمن رزقه ورزق عائلته ، ودع حسن صديقه عائدا إلى حيث شباكه وبدأ بسحبها بالتدريج رويدا رويدا وما أن جمعها في مشحوفه بدأ بإخراج السمك منها فرحا بهذا الرزق الوفير ثم غادر الهور متجها إلى داره حاملا صيده في زنبيل وطلب من زوجته أعداده للغذاء كما طلب منها أن ترسل سمكة إلى بيت جيرانه 0
قامت زوجته بشق السمكة وتنظيف أحشائها وغسلها بالماء وتركتها حتى تجف قليلا 0
ثم ذهبت حسنة إلى موقد النار وهو عبارة عن حفرة في الأرض ووضعت فيه كمية من المطال اليابس ( وهو سرجين الجاموس يصنع على شكل أقراص ويترك تحت أشعة الشمس حتى يجف ويستخدم كوقود وإشعال النار ) وضعته في الحفرة وأشعلت عود الثقاب وما أن اشتعل المطال سارعت إلى حيث السمكة ودهنتها بقليل من الدهن ثم غلفتها بورق الصحف ثم غلفتها بالطين كاملة حتى أصبحت السمكة داخل كرة الطين هذه ووضعتها في الموقد وغطتها من جميع الجهات بالجمر المتكون من المطال واستمرت بتأجيج النار بين فترة وأخرى ، غادرت حسنة موقد النار هذا وانشغلت ببعض أمور المنزل وأنجزت أعمالها ثم عادت تنظر إلى الموقد وأزاحت بالعصا قطع الجمر حتى شاهدت أن كرة الطين قد جفت واكتسبت لونها الأبيض وأحدثت فيها النار بعض الشقوق ، أيقنت أن السمكة قد نضجت وتم شيها بشكل جيد وبواسطة قطعة قماش أخرجت كرة الطين هذه وتم تكسيرها وإخراج السمكة ووضعها في صينية تحيط بها قطع الطماطم والخيار من كل جانب ، تم تناول طعام الغذاء من قبل العائلة وهم يتلذذون بها 0
( 10 )
وتمضي الأيام مسرعة ويكبر بطن حسنة تدريجيا تبعا لنمو الطفل فيها وهي لا تزال تزاول عملها المنزلي بهمة عالية رغم أنها في الشهر الأخير والعائلة تنتظر المولود بفارغ الصبر وقد هيئة مستلزمات الطفل مسبقا من الكاروك ( وهو سرير خشبي صغير مثبت بقائمتين خشبيتين وهو يهتز كلما حركوه ) إلى الملابس وغير ذلك 0 كان حسن حين يروم النوم بجانب زوجته ليلا يضع رأسه على بطنها ليسمع حركة الطفل بلهفة ، وكانت حسنة ترتمي بين أحضانه وتضع رأسها على كتفه أحيانا 0
ــ حسنه : ماذا ستسمي ابنك
ــ حسن: لست ادري سأترك ذلك للعائلة
ــ حسنه : كيف ذلك
ــ حسن : سأترك تسميته إلى والدي ووالدتي
وفي الصباح الباكر تخرج العائلة إلى أعمالها ويطلب حسن من والديه أن يهيئوا اسما لولده فيخبراه اختر الاسم الذي يعجبك أنت وزوجتك يا حسن ، لا فرق عندنا يا ولدي ، وينشغل حسن بأمور الحياة وأعماله اليومية ويعود متعبا مجهدا إلى داره عند الغروب وبعد تناول طعام العشاء يبلغ زوجته برأي والديه وعليهما أن يختارا الاسم فتبلغه زوجته أذن اختر الاسم أنت يا زوجي 0
يترك حسن داره وهو يسير ببطء وعند حافة الهور يتوقف يمتع ناظريه بمنظر الغروب وكأنه يراه لأول مرة ينظر حسن إلى الأفق البعيد حيث حافة الهور البعيدة فيشاهد قرص الشمس وهو يلامس الماء في الهور بلونه الأحمر الناري والغيوم اكتسبت لونها من احمرار لون الشمس أيضا كما ويرى لون الماء في الهور قد اكتسب لون الدم الجاري ، ماء احمر ممزوج بالذهبي وألحني والبرتقالي تسر العين حين مرآه ، وقف حسن يتأمل دقة المنظر وحسن أدارة الخالق لهذا الكون وتسخيره للإنسان 0
نعم سأسمي ولدي باسم اخترته ألان وقد أوحى إليّ منظر الغروب به حيث اللون الأحمر يذكرني بدم سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام نعم سيكون اسم ولدي حسين 0
يعود إلى داره ويبلغ زوجته بالاسم وتعاضده في الاختيار ، وتمضي الأيام ويبدأ المخاض الصعب عند حسنه وفي الليل تبدأ الصراخ فتأتيها والدة حسن على عجل وتبلغ حسن بالذهاب سريعا إلى الجدة ( وهي قابلة تقوم بتوليد النساء ) يذهب حسن سريعا وتقوم شقيقاته بتهيئة الماء الساخن وقطع القماش ليكون كل شيء جاهز حين قدوم الجدة 0
وبين صراخ حسنه وطلقاتها وبين قلق العائلة تأتي الجدة لتقوم بالمهمة ، تدخل إلى الغرفة وتطلب من حسنه بأن تسحب نفسا عميق ثم تحاول الدفع بهدوء ، وحسنه يزداد صراخها شيئا فشيئا أما حسن فهو بحركة دائمة ذهابا وإيابا لا يدري ما يفعل وما سيحصل 0
وبين صراخ حسنه وعمل الجدة يخرج الطفل معافى فيسمع حسن صوت صراخ خفيف يعرف انه صراخ الطفل فتخرج شقيقته لتبلغه بولادة الطفل ، ويصرخ حسن فرحا أخيرا جاء حسين فتعم الفرحة الدار 0
فيقوم والد حسن بذبح كبش للمولود الجديد ويوزعون لحمه على البيوت المجاورة لهم قربانا للسلامة وتمام الخلقة 0
( 11 )
ويكبر حسين وقد رضع مع حليب أمه رضع قيم وأخلاقيات المجتمع القروي وتربى على الشهامة وطيب المعاشر وحسن الخلق وتعلم من أبيه ومن مجالس قومه كل المثل الحسنة واستلهم القيم من القصص التي كانت تروى أو كانت تحدث ، نشأ وترعرع وخبر الحياة وهو لا يزال طفل لم يبلغ العاشرة من عمره ، كان ليس كأقرانه من الأطفال فلم يلهو بلهوهم ولم يشاركهم بلعبهم ، كان دائم التجوال مع والده وجده حيث مضيف الشيخ وما يحكى فيه أو حيث مجالس الكبار وما يتحدثون به وكان حسين بفطرته تواقا لسماع قضايا العشائر وعاداتها وقصص البطولة فيها وكانت ذاكرته تخزن كل ما يسمع بدقة ثم يكرر ما سمعه في البيت لوالدته وجدته رغم انه أمي لا يجيد القراءة والكتابة ، كان حسين حاد البصر والبصيرة جيد السمع والإصغاء والحفظ وكان يلجا أليه إقرانه ليعيد عليهم ما سمع من أحاديث في تلك المجالس وكان يقصها عليهم بتفاصيلها ويعبر عنها بانفعالاته وتقاسيم وجهه وكأنه هو المعني بهذه الأحاديث 0
وفي تلك الفترة من حياة حسين حدثت أمور لم تكن في الحسبان بالنسبة لطفل بعمره ، حيث حصل خلاف عشائري بين عشيرتين متجاورتين في السكن بالهور ( السعادنة والجناودة ) وسرعان ما تطورت الأمور واتسعت رقعة الخلاف بينهم بسبب عبور أحدى الدواب إلى مرعى عشيرة السعادنة مما دعا بالراعي أن يكيل الضرب لتلك الدابة محاولا أخراجها من مرعاهم وكان ضربه شديد القسوة مما دعا الراعي من عشيرة الجناودة أن يشحذ هممه وبعصبية واضحة زجر الشخص المعني واشتد الكلام بينهم سب وشتائم واشتباك بالأيدي وصفع راعي الجناودة بكفه على وجه راعي السعادنة 0
تدخل الموجودون لفض النزاع مما ترك مجالا لأحدهم أن يذهب إلى أهله ويبلغهم بما حدث وقد حمل بندقية البرنو العائدة لأبيه وذهب مسرعا إلى حيث صاحبه وهناك صوب البندقية عليه وأطلق رصاصة واحدة أردته قتيلا في الحال ، انتشر الخبر المروع لدى العشيرتين فأنتفض الرجال يحملون أسلحتهم يطلبون الثار من قاتل ولدهم وحملت العشيرة الثانية أسلحتها لتدافع عن نفسها من غضب العشيرة الأخرى وفي لحظة الانفعال لكلا العشيرتين يبدأ الرصاص بالانطلاق من فوهات البنادق البرنو والانكليزية والكسرية وأزيز الرصاص يخترق المسامع وصوته يملئ الأفاق 0
عشيرة تطالب بالثار وتتعالى صيحاتها قتل بقتل لا تبقوا لهم دابة ولا رجال اقتلوا كل من تشاهدوه منهم ، وأخرى تشحذ الهمم وتنخى رجالها امسكوا مواضعكم وأطلقوا رصاصكم صوب كل شيء يتحرك والنسوة تزغرد وتهتف للرجال اليوم يومكم حافظوا على قيم الرجولة دعوا أسلحتكم تتكلم بلغة الموت ، وينطلق صوت الحق من رجل أتعبته السنين وخبرته الحياة اهدؤوا أيها النشامى واتركوا منطق السلاح واستمعوا لمنطق العقل نحن جيران وشركاء في الهور ومتصاهرون فيما بيننا لا تأخذكم عصبية العشيرة وتبعدكم عن العقل الانفعالات ، عودوا إلى رشدكم 0
وتذهب نصائح الرجل أدراج الرياح فلا احد يسمع منطق العقل وبين أزيز الرصاص وزغاريد النسوة وأصوات الرجال المتناخية للقتل ضاع صوت العقل والحكمة ، ويشتد أوار المعركة ويحمى وطيسها وتباد قطعان الجاموس ويقتل الرجال من الطرفين وتراق دماء كثيرة بين قتلى وجرحى وتحرق منازل بمشاعل الحقد العشائري 0
ينتشر الخبر بسرعة الريح ويصل إلى مسامع العشائر الأخرى ويبدأ الأخيار بتشكيل وفد عشائري مشترك ويذهبون إلى حيث المعركة حاملين راية منطق العقل فيهدؤون هذا الطرف وذاك ويوقفون نزف الدم فتصمت البنادق وينسحب الرجال إلى مواقع العقل يستمعون إلى خبرة الشيوخ وعقلاء القوم 0
وتتحول النسوة من الزغاريد إلى الصراخ والبكاء ويزداد العويل عند العشيرتين تلك فقدت زوجها وأخرى أخاها وثالثة ابنها ورابعة فقدت دوابها وتختلط الدموع بالدماء وتطفئ نيران البيوت المشتعلة ويتوقف نهر الدم في الهور لا احد يدري سبب هذه المجزرة من الشيوخ اللذين حظروا كل الذي يعرفوه أن أصوات البنادق تعالت وانطلق رصاصها منذرا بالموت ، تم الاتفاق على الهدنة لمدة شهر واحد فقط لينظر وجهاء الخير الأمر ويحددوا الطرف المعتدي ، وعقد الرأي على أن لا ينشب الخلاف مرة ثانية بين العشيرتين خلال هذا الشهر 0
وما إن هدأت النفوس وانتهت مراسم العزاء على القتلى واستقرار الأحوال بحذر شديد تحركت العشائر التي هدئت النزاع بل أوقفته أول مرة على أمل حله نهائيا بجلسة عشائرية تعطي كل ذي حق حقه ، تحركت خلال هذا الشهر وجمعت المعلومات واستمعت إلى الشهود وأحصت عدد القتلى لكل عشيرة كما أحصت عدد ما نفق من الدواب لكل عشيرة وأحصت عدد الدور المحروقة ومجمل الخسائر فيها كل ذلك بتوثيق سليم محايد 0
عقد شيوخ العشائر ممن أوقفوا الصراع عقدوا الرأي على حل الخلاف بين العشيرتين بشـــكل
نهائي وحددوا يوم الجمعة القادم موعدا للفصل العشائري ووجهوا الدعوة للعشيرتين للحضور لإنهاء هذه القضية 0
ألا أن عشيرة السعادنة أصرت أن يكون الفصل العشائري في مضيف شيخها لان الصراع بدأ بعد أن قتل الجناودة احد رجالها وان قطرات الدم التي سالت والروح التي أزهقت لابد أن تحترم وعلى المعتدي تحمل النتائج 0
نعم لكم الحق بذلك لكن الطرف الأخر قد قدم القتلى وأصابه ما أصابكم ونحن نسعى لوأد الفتنه بين الطرفين ، أذن عليكم بالجناودة أجبروهم بالجلوس في ارضنا ودفع الفرشة مقدما ( الفرشة هو مبلغ من المال يدفع قبل الفصل العشائري لكي يهيئوا وجبة الطعام ومستلزمات البيت المعد للفصل العشائري ) أو سيواجه الموت الزؤام 0
غادر الوفد العشائري إلى عشيرة الجناودة وابلغوهم بموعد الفصل العشائري وعليكم أيضا دفع الفرشة إلى السعادنة لتهيئة أمور الفصل العشائري 0
انتفض شباب الجناودة منزعجين من هذا الطلب غير راضين لأنه دليل على اعتدائهم على السعادنة ، انتفضوا يحملون أسلحتهم بأيديهم يلوحون بها كأنهم يسعون إلى شر مستطير ، ما كان من الوفد العشائري ألا أن يوبخهم لهذا السلوك المشين في حين أن شيوخ الجناودة قبلوا بذلك بشرط أن يضمنوا حقهم أيضا 0
( 12 )
كان من بين المتضررين من هذه المعركة عائلة حسن حيث قتل غالبية قطيع الجاموس الذي يملكون ونكبت العائلة نكبة كبرى وعم الحزن فيها واخذ منهم مأخذا كبيرا 0
وتتضاءل مصيبتهم أمام مصيبة باقي العشيرة حيث نكبة بعض العوائل بفقدان أبنائها قتلى في معركة لا تستوجب كل هذه الخسائر، وبدأ والد حسن يصبر العائلة ويشحذ فيهم روح الإيمان ويقوي عزيمتهم لمواجهة هذه الخسارة رغم انه كان ينزف من الألم والحسرة ويكتم ذلك داخل نفسه حتى اعتراه المرض 0
وبين عويل النساء وحزنهنّ وبين انفعالات حسن وتوعده بالانتقام ، كان والده يكظم الغيظ وينصحه بان لا تأخذه العزة بالإثم وكان يؤكد عليه اترك ذلك للعشيرة فهي تتصرف بالحقوق وتقرها كما وعد شيخنا وان المفاوضات جارية بين العشيرتين عن طريق وسطاء الخير من شيوخ العشائر الأخرى وسيأخذ كل ذي حق حقه ، كان يحدث ولده حسن يذلك وهو يتحرق حزنا من داخله على ما أصابه وكان يتساءل هل سيعيد الوسطاء لهم ما خسروه 00 اشك بذلك 0
وتمضي أيام الهدنة ثقيلة على كل ذي مصيبة من كلا العشيرتين ، هل سيحسم الخلاف أم سيعود الموت من جديد أذا ما فشلت مساعي الخير هذه ، هل ستكفن أسلحتنا بقطع القماش وتترك في مخابئها أم ستعود بعد شهر لتتكلم بلغة النار والموت من جديد 0
تساؤلات مشروعه لكل من فقد ابن وأخ وحفيد أو خسر قطيع من الجاموس مصدر رزقه وكل ثروته 0
وبدأ أصدقاء حسن يتجمعون ثانية عند المساء لكن عددهم لم يكتمل حيث قتل قاسم في هذه المعركة بين الطرفين مما ضاعف حزن حسن لفقده صديقه واقرب الناس أليه تجمعوا ثانية والحزن يخيم على الجميع وفقدوا لغة الفرح والطرب واستعاضوا عنها بلغة الحزن والألم
ــ جاسب : آه يا حسن لقد فقدنا قاسم
ــ عباس : خسرنا اعز الأصدقاء يا حسن
ــ حسن : ( والدموع تنهمر من عينيه ) آه يا غدر الزمان ويا حوادث الشؤم لقد أخذتي منا اعز الأحباب
وتحولت سهرتهم إلى عزاء جديد وأصابهم الحزن بسهامه وتعالى بكائهم وانهمرت دموعهم وشقت عنان السماء صرخاتهم وكأن الأنين أصبح لغتهم التي بها يتحاورون 0
سمعت النسوة أصواتهم وصرخاتهم وقالت أحداهنّ وهل يبكي الرجال ، إجابتها الأخرى يبكون ولأبسط الأسباب فكيف بمن خسر صديق عمره ورفيق حياته وقمر سهرتهم 0
نعم كان قاسم عقل ذو حكمة وهدوء يشوبه الحذر لا يتكلم ألا بمقدار ولا يصمت ألا حين يتوجب عليه الصمت كان حليما ودودا يزن كلامه قبل أن يخرج من شفتيه ولا يجامل على حساب الحق إن اغلب نساء القرية يتمنين أن يكون قاسما زوجا لهنّ وكنّ جميعا يمنين النفس به ويحسدنّ أي فتاة سيختارها زوجة له ، سبحان الله عاجلته يد المنون فبكته النساء قبل الرجال فكيف بأصدقائه الذين وقع عليهم الحمل الثقيل 0
ويتحول أصدقائه من أغاني الفرح والسرور إلى أغاني الحزن والبكاء ، غناء مصحوب بأنين ، وانين مصحوب بدموع ، ودموع مصحوبة بألم وحسرة وفراق 0
اختفت الصورة المشرقة أما أنظارهم ولم يبقى لديهم ألا صورة سوداوية حزينة ينظرون أليها وبدأ الجمع ينفض بين الأصدقاء بالتدريج وغادروا المجلس لهذا اليوم على أمل اللقاء غدا ، وغدا بالنسبة لهم ربما يكون وقعه عليهم أفضل من سابقه ، أمنيات أصدقاء قد لا يغير منها الزمن شيء وخاصة أن الجرح الذي يعانون منه لا زال لم يندمل بعد وان حالة الحزن ورائحة الدم والموت لازالت تزكم الأنوف في الهور وذكريات وصور الأحبة لا زالت تداعب مشاعر الجميع رجالا ونساء فهل يأتي الغد بشيء جديد يسرهم ؟0
ومع ازدياد ظلمة القرية التي تفتقد إلى الكهرباء ومع ظلمة النفوس التي تقاسي منها الناس ألقى حسن يجسده المتعب على فراش الزوجية ربما يستريح بعض الشيء وتهدأ عنده الهواجس وهو يحتضن جسد زوجته ومستودع همومه والقلب الذي يلهمه الصبر والأمان ، وما أن لامس جسده الفراش ليريح جسده المتعب وأغمض عينيه باسترخاء حتى راودته الأوهام وتمثلت أمامه الأوجاع وإذا به يرى قاسم واقف أمامه ينظر أليه يحاكيه ما بك أيها العزيز ، أ تسألني ما بيّ وان فراقك احرق لي الأحشاء 0
وبدأت الصورة أمام ناظريه تبتعد شيئا فشيئا حتى تلاشت وإذا الدموع تنهمر من حسن بغزارة وهو يصرخ بأعلى صوته ( قاسم 00 قاسم لا تتركني وحيدا أقاسي ) وقد نهض مفزوعا من فراشه وقد أمسكت به زوجته وهي تقول حسن 00 حسن لا تبتئس كابوس ويزول وقد كان رأس حسن على كتفها وشعرت بالدموع الساخنة التي نزلت لتبلل منها الثياب 0
عدل سابقا من قبل Admin في الثلاثاء يوليو 24, 2012 4:03 pm عدل 12 مرات