العنوان : سويعات من ليل الغربة
المؤلف: وليد زيدان اللهيبي
الايداع القانوني: 1216 mo 2015
ردمك: 0 – 270 – 35 – 9954 – 978
الطبعه الاولى: 2015
الطبع : youleb services
الهاتف : 0537681228
الفاكس : 0537681065
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المملكة المغربيه _ الرباط
سويعات من ليل الغربة
( أوراق من مذكرات مغترب )
وليد أللهيبي
الإهـــداء
ـ إلى روح الكاتب المبدع همام هاشم الألوسي
ـ إلى كل المغتربين والمهجرين من العراقيين
ـ إلى الذين يعيشون في المنفى
ـ إلى الذين يعيشون غربة النفس داخل الوطن
وليد أللهيبي
ألمقدمــــه
سأختلف في كتابة مقدمة هذا الكتاب عن باقي كتبي المنجزة وقد اختلف مع باقي الكتاب بذلك أيضا.
سوف لن اكتب مقدمة من بنات أفكاري وإنما سأدون ثلاث مقاطع أعجبتني كثيرا من كتاب مبدع عراقي رائد في مجال الكتابة والإبداع ومن كتابه الموسوم من دفتر الغربة:
خواطر مضطربة حزينة
لمؤلفه النابغة المبدع المجدد في أسلوب كتابته وهو الكاتب المرحوم همام هاشم الألوسي
ـ 1 ـ
تعساً لكم أيها الأغراب... فمثلما حرمتمونا من النوم تحت سماء بلادنا الهانئة، وفوق سطوح بيوتنا الوادعة، فستحرموننا من النوم الأبدي تحت تراب عراقنا الطاهرة. ص 59
ـ 2 ـ
من صغرنا نحن العراقيون ، كانت أحزاننا لفقد حلم صغير، تشكل ( جدول) دموع ... ثم كبرنا ، فأصبحت أحزاننا لفقد عزيز تشكل ( انهار ) دموع ... واليوم وفي شيخوختنا ، تشكل أحزاننا كأيتام وطن ضائع ( محيطات ) دموع. ص 64
ـ 3 ـ
مع أيماني المطلق بالقدر المحتوم ، ألا انه من الحزن إني لا اعرف البلد الذي سأودع فيه حياتي المتعبة، وتحت تراب أي ارض من منفاي الموجع سيوضع فيه جسدي المطعون ألف ألف طعنه ... وستكون مأساة حياتي إن هذا التراب لن يكون تراب بلدي الذي كنت احلم أن يكون سريري الأخير ... أنا ألان في أواخر العمر وأصعبه ... والوطن في ( أصعب ) أوضاعه.. أصبحت العودة إلى الوطن حلما ... بل حلماً بعيدا بعيدا ... وأصبح ترابه أغلى ما أتمنى النوم فوقه وتحته . ص 121
( همام هاشم الألوسي )
نبذة مختصرة عن عائلة الالوسي :ـ
يرجع نسب هذه العائلة الجليلة الكريمة الى آل البيت الاطهار حيث تشير مشجرة العائلة ان جدهم الثامن والثلاثين هو الامام الحسين بن الامام علي رضي الله عنهم ، وصاحب مقدمة كتابنا هذا هو الاستاذ المبدع المرحوم همام ـ هاشم ـ محمد درويش ـ احمد شاكر ـ محمود شهاب الدين ( ابو الثناء ) الالوسي ويكنى بالالوسي الكبير اي انه الجد الخامس وهو عالم فقيه وصاحب مؤلفات
1ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( المؤلف الاشهر )
2ـ نشوة الشمول في السفر الى إسلامبول ( وهو عن رحلته الى الاستانة )
3ـ غرائب الاغتراب
4ـ دقائق التفسير
5ـ رسالة في الجهاد
هذه بعض مؤلفات الجد الخامس للكاتب المرحوم همام الالوسي فلا غرابة اذا ابدع وهو سليل الحسب والنسب والعلم والادب .
ـ 1 ـ
حين كان مغتربا في المملكة الاردنية الهاشمية عام 2008 طلب منه احد المغتربين ان يكتب له شيئا عن الغربة ، مسك وميض قلمه وبدأ ينزف وبمرارة كلمات باللهجة العامية سطرها على الورق فكانت هذه المقطوعة ادناه.
الغربة
يا ليل الغربة يا ليل اشطولك
تمر بينه ثكيل وتنهشنه اسنونك
العمر أيامه كصرت وما بقه صبر ينولك
يمته يادجله ، يا عراق اهلك يجونك
بحر الدم ما نشف ، يا عراق مشتاكيلك
بحر صبرنه صار وشواطيه يا وطن جفونك
دم شراييني نزف وتشوفه عيونك
مكحلات عيون النسوان برماد بارودك
والبنات تلعب بالشظايا يمن فدوه لطولك
مو كافي قتل وارهاب وتغرس بينه سجاجينك
يا وطن انته مو هذا النعرفه ولا ننسه حنينك
يا وطن ارجع لأيام زمان افرش الأمن الناسك
نرجعلك يا وطن...
مشي ، زحف نركص لترابك وليلك
ـ 2 ـ
الوداع الصعب
غادر وميض العراق متوجها إلى عمان بعد توديع محزن مؤلم ملؤه دموع الأهل والأحبة وبين بكاء النسوة وصمته كان الألم يعتصر قلبه فيبكي قلبه الحنون الرقيق بدموع دم لم يألفه من قبل.
كيف لا وهو يودع اعز ما يملك الأهل والأحبة وقبلهم وطن ضاع كان يوما في حدقات العيون، فمن يفقد عزيزا ما الزمان كفيل بأن ينسيه لكن من يفد وطن كيف سينساه ؟.
غادر الدار متوجها إلى المطار وما أن وصل هناك ونودي برقم الرحلة حمل حقائبه الصغيرة بيده متوجها إلى الطائرة التي ستقلع بهم إلى عمان، جلس قرب النافذة ينظر من الطائرة إلى ارض الوطن ولألئ من عينيه انسكبت اسمها الدموع.
أقلعت الطائرة وكأنها سحبت أنفاسه معها وشعر بأن روحه تفارق جسده لا وطنه، وتستمر رحلته حتى يصل إلى مطار عمان وهناك كان بانتظاره ابن عمه ، التقيا وتبادلا التحيات والقبل ثم انطلقا بسيارة ابن عمه إلى حيث مسكنه، ثلاثة أيام قضاها هناك في عمان هي أولى محطات غربته .. تجول خلالها في شوارعها وغاباتها وجبالها.
وفي يومه الأخير ودع أقربائه متوجها إلى المطار كي يغادر من هناك إلى المملكة المغربية, اعتلى الطائرة وجلس في مقعده المقرر وانطلقت بركابها إلى القاهرة لتهبط ( ترانزيت ) هناك وبعد رحلة طويلة وانتظار توجه إلى الطائرة التي ستنقله إلى المملكة المغربية وما أن غادرة مطار القاهرة متوجهة إلى مطار كزابلانكا ( الدار البيضاء ) توجس وميض خيفة لا لشيء ألا من ما ستخبئه الأيام له، ساعات من الطيران ثم نودي بربط الأحزمة استعدادا للهبوط في مطار كزابلانكا حيث وصلها في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر وما أن حطت قدميه ارض المطار توجه مباشرة إلى البوابة المختصة لغرض تأشير دخوله الأراضي المغربية، استقبله الموظف المختص بابتسامة لطيفة وقلب صفحاته جوازه ثم نظر اليه مستفسرا عن سمة الدخول ، اعطاه وميض الكتاب الذي فيه الموافقة على امل ان يدخل المملكة.
ـ 3 ـ
ساعات الانتظار المريبة
طلب الضابط المعني من وميض أن يرافقه إلى غرفة أخرى ليحصل على الإذن بالدخول ، سار وميض معه مطمأنا ، سلم الضابط جواز وأوراق وميض وغادر إلى مكان عمله ، وميض بدأ يتابع موضوعه مع الشخص الجديد هذا الشخص يدعى صبحي وأبدى تعاونا ملحوظا مع وميض كي يسهل عليه الأمر حيث بدأ بتقليب احد الملفات أمامه باحثا عن الموافقة وحسب التواريخ فلم يجد شيئا ثم ابلغ وميض بالانتظار خارج الغرفة لحين إكمال الإجراءات الأصولية، خرج وميض ووقف على مقربة من الباب وهو يشاهد صبحي يجري اتصالات مع مراجعه لحسم الأمر.
أصبح الوقت يمر ثقيلا على وميض والساعات أصبحت وكأنها قرون من الزمن مرت ساعة... ساعتان ووميض يترقب النتيجة، جاء إلى صبحي ليعرف أسباب التأخير ابلغه ننتظر صدور الموافقة بدخولك لان سمة الدخول لم تصلنا وأنا اتصل بالأمن الوطني كي نأخذ الإذن بدخولك وأرجو أن تنتظر خارجا لحين صدورها.
جلس وميض على احد المقاعد ينتظر وينتظر وصالة الاستقبال قد فرغت من المسافرين بعد أن أنجزت معاملاتهم دقائق أخرى وهبطت طائرة أخرى وامتلأت الصالة بالمسافرين والمسئولين هنا يعملون بكفاءة وسرعة ثم فرغت الصالة من جديد وخلت من مسافريها وتمر على وميض أعداد كثيرة من المسافرين وعدد من الطائرات الهابطة بركابها وهو ينتظر وتمر ثلاث ساعات وأربع ولم يحصل على ألإذن المزعوم ولم يحسم أمره والانتظار يأكل جانبا كبيرا من صبره ويفقده التركيز والحلم ثم يراجع صبحي مستفسرا وينشب الجدل بينهما حاميا ثم يستدرك وميض ويكبح غضبه ويغير من حدة طبعه ملتمسا تسهيل الأمر لان الوقت مر طويلا والتعب نال منه الشيء الكثير.
انتظر نحن نعمل على مشكلتك هذا ما قاله صبحي، وتمر الساعات ثقيلة قاتلة على وميض والقلق يراوده والتعب بدا واضحا عليه سبع ساعات مرت ولا فائدة ترتجى بحيث إن كادر المطار استبدل بكادر أخر ووميض يلح بطلبه راجيا من صبحي إفهام بديله بالموضوع وفعلا فعل ذلك ، وتمر ساعة أخرى ويصبح الوقت هنا في المطار التاسعة والنصف أي ثماني ساعات مريبة من القلق والانتظار تعتصر وميض وتنهك قواه وتكاد تفقده صبره من جديد، يدخل على الشخص البديل راجيا إجراء اتصالاته مع مراجعه، رفع سماعة الهاتف واتصل بالأمن الوطني في الرباط حيث مرجعه هناك وجاءت النتيجة أن امنحوه سمة الدخول، ابلغ زميله بأن يهتم بمعاملتي ويسرع في انجاز الإجراءات وفعلا تم ذلك وختم جوازه بعد جهد جهيد. نزل وميض السلم تعبا إلى الصالة السفلية يبحث عن حقائبه وحين وجدها حملها إلى خارج المطار راكبا سيارة إلى مدينة الرباط والتي وصلها متأخرا بحدود الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل بعد أن تناول وجبة عشاءا في الطريق ، استقبله هناك بعض أصحابه وأحبته مرحبين به متمنين له طيب ألإقامة واخبروه بأنهم سيأتون لزيارته صباحا وطلبوا منه ان ينام ويرتاح من السفر وإشكالاته.
ـ 4 ـ
شقه سكن وقتيه
خلع ملابسه سريعا وأخذا حماما ساخنا ليريح جسده من التعب ، ثم توجه إلى غرفة نومه وألقى بجسده المتعب على السرير وغط في نوم عميق لم يستيقظ منه إلا في الساعة السابعة صباحا، نهض بنشاط وغسل يديه ووجه وارتدى ملابسه وتأنق وعطر نفسه ثم خرج من الشقة إلى الشارع يبحث عن محلات ليشتري منها فطوره ويهيئ مستلزمات الطبخ من المواد الغذائية وبكمية قليلة لان سكنه هنا وقتي.
الشقة تقع منطقة اكدال زنقة واد زيز في الطابق الثاني ورقمها أربعة مؤثثة جيدا وتحتوي على ثلاث غرف وصالة ولكن فيها مشكلة واحدة وهي رائحة كريهة تنبعث منها بسبب الرطوبة، مما دعا وميض لجلب معطر الجو وضخه باستمرار ليغير من رائحة المكان، ثم بدأ برحلة البحث عن شقة سكن بشكل دائمي واستبشر خيرا حين وجدها وستخلى بعد ثلاثة أيام.
وعند العصر من هذا اليوم الأول لسكنه في شقته رن هاتف الاتصال المعلق على الجدار والمربوط بلوح أرقام الشقق في مدخل البناية، رفع السماعة، نعم ، افتح الباب أنا قادمة، ضغط وميض زر الباب لينفتح باب البناية الخارجي وما هي إلا لحظات حتى طرق جرس باب شقته، فتح الباب وإذا بفتاتين جميلتين أمامه مباشرة دخلت أحداهن وقبلته ثم أعقبتها الثانية وأمام حيرته هذه وقفت الفتاتين في الصالة وأغلق وميض الباب وشاهد ذلك المشهد ولده وزوجته مستغربين ذلك، من انتنّ سأل وميض وأجابت أحداهن نحن آسفات دخلنا الشقة الخطأ، وطلب منهن أن يسترحن قليلا وقام بضيافتهن والحديث معهن.
قالت ريم وهذا اسم أحداهن كانت هذه شقة عبدالله وكنا نزوره هنا، قال وميض أنا سكنتها اليوم مع عائلتي، لم يبدو الخجل عليهنّ أبدا مما اشعر وميض بتعمدهن الدخول إلى الشقة حيث كانت نظرات ريم وابتسامتها توحي بشيء وهو بناء علاقة من نوع ما.
طلب منهنّ وميض التقاط بعض الصور مع زوجته للذكرى فوافقنّ بالحال والتقط لهن الصور ثم طلب منهنّ تعليم زوجته طريقة تشغيل الغسالة ذهبت الفتاة الأخرى إلى المطبخ مع زوجته ثم طلبت منه ريم أن تشاهد الشقة تجول معها وميض من غرفة إلى غرفة وهناك أشارت إليه بأن يحتضنها مد وميض يديه واخذ ريم بين ذراعيه وشعرت هي بحنانه وانفاسه وشعر هو بقشعريرة في جسده وبسرعة غادرا الغرفة بعد أن أعطته رقمها ووعدته بلقاء ساخن معه وهي لم يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين عاما.
غادرتا الشقة بابتسامة وأغلق وميض خلفهنّ الباب يوم أول من السكن في شقة وقتية تأتيه فتاتين فما سيحمله الغد له من مفاجآت.
توجس وميض الحذر واسر صاحبه احمد بما حصل له ضحك احمد وقال له لا تعجب ستصادف الكثير منهنّ هنا فالكل يطلبنّ مثل هذه العلاقة من اجل الدراهم، مجتمع فيه من الانفتاح الشيء الكثير وبشكل واضح قد لا تألفه في مناطق أخرى، كن حذرا يا صاحبي وحافظ على نقودك فكل شيء هنا مباح مقابل الدراهم.
ـ 5 ـ
آلم الغربة
الغربة: هي سيف مسلط فوق الرقاب تقطع الأوردة والشرايين وتدمي القلب ، هي عملية قتل للإنسان بشكل بطيء دون أن يموت.
من منا يستطيع أن يقاوم هذا آلام، وكم من العراقيين ألان هم في غربة ( غربة خارج الوطن، غربة داخل الوطن ) يقيناً حين يضيع الوطن ويفقد العراقيون العراق تبدأ عملية النزف بتدفقها، نزف دم ودموع ومشاعر.
من يفقد حبيبته يستعيض عنها بأخرى والزمن كفيل بأن ينسيه آلم الأولى، ومن يفقد عزيزاٍ عليه ( أب، أخ، أخت، أم ) يحزن مدة من الزمن ثم هذا الزمن ينسيه ما حدث.
لكن من يفقد وطن كالعراق، أرضه مباحة للغرباء وسمائه تحلق فيها خفافيش الاحتلال ومياهه تبحر فيها ضفادع الغزاة كيف سينسيه الزمن ذلك وهل الأوطان تنسى؟.
حين يقع الوطن فريسة صراعات لا مبرر لها ألا الكسب الغير المشروع ممن جاءوا مع الاحتلال ليرسموا للوطن خارطة غير خارطته مليئة بالأحقاد والثارات والقتل والتهجير، وخارطتنا التي فقدناها مليئة بالحب والأمن والأمان والتعايش السلمي ووحدة الوطن عراق واحد منذ الأزل.
الخريطتان على طرفي نقيض فمتى ينتفض شعب ويقوده رجال ويرجع الوطن كما كان؟.
أسئلة كثيرة إجاباتها ملئ مجلدات في ضوء متناقضات الأوضاع التي نعيش .
دول الجوار مليئة بالمغتربين العراقيين والمهجرين قسرا وابعد من دول الجوار فيها من المغتربين الشيء الكثير ، الجميع يعيش الألم بشكل يومي ويتجرع كأس الذل صباح مساء .
هنا وأنت تعيش الغربة تتنفس الألم وتأكل الحزن وتجتر الجراح ، هنا لا تشعر بطعم معين ، الطعم الوحيد الذي تميزه هو طعم المرارة والألم والحزن والذل وهاجس وطن ضاع وحين تنسكب الدموع على الخدين انهاراٍ تحرق حرارتها لك الوجنتين .
وإذا ابتسمت يوما تبتسم حسرة وتضيق الصدور على المغتربين .
في بلدي العراق انحنى النخيل خجلا مما أصاب العراق وتحول لون الإسفلت إلى لون الدم من كثرة القتل وامتلأت الجدران بذكريات المسجونين زورا وبهتانا .
في بلدي العراق امتلأت الإشارات الضوئية بالشحاذتين والمتسولين من الأطفال وتزاحمت أرصفة الطريق بسيقان المومسات ، كما فرغت مدارس بلادي من طلابها لان الاطفال يتسكعون في الطرقات .
في بلدي العراق أصبح اللون المفضل للنسوة هو الأسود لون الحزن والألم لان جميعهنّ فقدنّ زوجا أو أباً أو أخاً أو ابناً .
في بلدي العراق لا تسمع للموسيقى شيء كل ما تسمعه هو صوت الانفجارات هنا وهناك وازيز الرصاص يملئ الاجواء وابواق السيارات ضجيجها يملئ الافق ، نعم سيارات المسؤولين .
في بلدي العراق تزرع الحواجز الاسمنتية بدلا من الاوراد والزهور وتنشئ السيطرات بدلا من اكشاك العطور وتباع المفخخات بدلا من كتب العلم .
هذه بعض الصور من بلد احتل وبلد ضاع وبلد شعبه يعيش المهاجر مغتربين في دول قد تذبح هي ابنائهم في داخل الوطن .
ـ 6 ـ
دموع ساخنة
جلس وميض قي الحديقة الخلفية لشقته التي في الطابق الأرضي ، جلس تحت مضلة بيضاء اسفلها طاولة خشبية جميلة وستة كراسي بيضاء .
جلس هناك يشاركه جلسته صديقيه الدائمين الذين رافقاهُ لاكثر من اربعين عاما دون ملل او كلل وتحملوا قساوته ولحضات غضبه وشاركوه لحضات فرحه القليلة في حياته ، صديقين من اعز أصدقائه بل هما عنده بمعزة نفسهِ ويحبهما بعدد دقات قلبه ، قل هو يعشقهما عشقا لا مثيل له ويتلذذ في الحياة معهما ويداعبهما بشغف كبير ، صديقيه هما فنجان القهوة العربية التي يتلذذ بحلاوتها رغم الطعم المر لمذاقها ، والقلم الذي يحتضنه ليزف حروفه من مداد القلب .
جلس وميض بصحبة صديقيه وبدأ يتذكر ايام بغداد الجميلة مبتدءاً من مكان ولادته وولادة ابيه من محلة نجيب باشا في حي الاعظمية مرتع الطفولة والصبا ، فيها ولد عام 1956 ومنها انطلق الى الرحاب الواسعة في الدنيا وفيها تعلم وبمدارسها درس وفي شوارعها لعب مع الاصدقاء وترك بصمة في كل حجر من احجار بيوتها هنا خط بقلمهِ ذكرى ، وعلى هذا الجدار كتب هنا مقر فريق كرة القدم ، فكان الطابوق اول ما نشر فيه قبل النشرات الجدارية المدرسية وقبل الصحف وكأنه يخط على لوح طين سومري ليؤرخ مرحلة .
وطبع على إسفلت الشوارع بصمات أقدامه في صيفها الحار وشتائها البارد ، وفيها أنشأه والده على حب الناس واحترام الجار وتقدير الكبير والرأفة بالصغير ، فيها رضع مع در أمه رضع الوطنية الحقيقية في العراق وفي مجالس والده وعمه في دارهم الواقعة في شارع الدهان رضع القومية على أصولها فحب العرب والحفاظ على وحدتهم كان ديدن العائلة ولطالما كان يشاهد ويسمع نقاشات الكبار في باحة الدار ، هذا يؤيد الزعيم جمال عبد الناصر وأخر يؤكد على الوحدة العربية في نقاش هادئ لا يعرف الحقد والضغينة كما يحدث اليوم عند سياسيونا .
ويمر شريط الذكريات به سريعا وحين كان طالبا في الصف الاول المتوسط خرج بتظاهرة مدرسية وساروا في شوارع محلتهم نجيب باشا وهم يهتفون امام المدارس الاخرى بمناسبة حدث مهم .
وكأن ما رضعه في سنينه الاولى قد اثمر الان حسٌ وطني وقومي .. نعم ففلسطين عزيزة على كل العرب ودعمها واجب على كل شرفاء العرب .
فلسطين بقعة عزيزة على قلوب الملايين العربية ضاعت بسبب الضعف العربي وضاعت بسبب التخاذل العربي وضاعت بسبب عدم أدراك قادة وزعماء وملوك العرب في الأربعينيات من القرن الماضي ، عدم إدراكهم لما يخطط له المستعمرون فهذا يوقع صك الانتداب وذاك يوقع وثيقة يخول بها المستعمرون احتلال الارض وغير ذلك الكثير ، وبين هذا وذاك وغيرهم يسحق الشعب العربي بعجلة الحرب وتستباح أرضه ويقتل رجاله وشبابه وصبيانه وتنتهك حرمات الدور والبيوت وتسلب النساء أعز ما تملك ، وزعمائنا وحكامنا من عبيد الدولار لا يحركون ساكنا ويبدأ الجرح العربي النازف الذي لا يعرف الاندمال ينزف الدم العربي بلا توقف وتمتص الارض العربية هذا الدم بشراهة ويتغير لونها تدريجيا الى الاحمر ثم تأتي اليات العدو الصهيوني العنصري لتمر بسرفها وعجلاتها على هذه الدماء وتغير لونها من جديد ، ارض احتُلت وشعب هُجر بالملايين لاجئين في الدول العربية كل ذلك سببه وعد بالفور المشؤوم الذي اباح للصهاينة احتلال الارض العربية .
وكل عام وبمناسبة احتلال فلسطين عام 1948 م تبدأ المدارس العراقية جميعا من الابتدائية صعودا تبدأ بجمع التبرعات العينية ( الصابون ، معجون الطماطم ، الرز ، وغير ذلك ) والتبرعات النقدية لتوزع على معسكرات اللاجئين الفلسطينيين .
تذكر وميض ذلك فأغرورقت عيناه بالدموع وا ضطربت الصورة امامه وبدأت ملامحها تتغير حيث الرؤيا اصابها التشويش بفعل هذه الدموع ، ما هي الا لحضات حتى بدأت الدموع تنهمر من عينيه بغزارة على وجنتيه المتجعدتين بفعل الزمن ، دموع ساخنة شعر وميض بحرارتها وهي تلامس وجنتيه ثم سقطت قطرات من الدموع على دفترهِ الذي كان يخط به هذه الذكريات وامتزجت بحبر القلم .. دموع سواخن .. وآلم اشد سخونة ومرارة في الفم ما بعدها مرارة ، وقد سحب وميض شهيقا عميقا ثم اعقبه زفيرا ملتهب كاد يجفف الدموع والحبر على الورق معا .
ـ وميض : انت تبكي بحروفٍ من حبر
ـ القلم : وانت يا صاحبي تبكي بدموع من نار ساخنات
ـ وميض : لم يبقى لنا الا البكاء
ـ القلم : وحبرنا يسجل دموعكم بكل اباء
يستمر وميض بالكتابة بعد ان مسح الدموع من عينيه وجف الورق الذي بين يديه ، نعم يا صاحبي سنستمر ، تتذكر ونكتب وتتألم ونبكي امام الضعف العربي الذي اهدر كرامة العرب واقصد ضعف حكامه وزعمائه وملوكه الذين يسعون جاهدين للحفاظ على كراسيهم باي ثمن ولا يهمهم ان يسرق الشعب العربي أو ان تستباح أرضه .
دموعنا السواخن هي غسل لجسدنا العربي لتطهره من الادران ومما علق فيه من آلام فهل ستكفي دموع الملايين العربية ان تطهر هذا الجسد ؟ .
يقينا لا تكفي شعب يسحق .. آلم مستمر .. دموع ساخنة بلا توقف .
ـ 7 ـ
حرب تشرين
كان عام 1973 عاما مميزا آنذاك في حياة وميض وهو ابن السابعة عشر عاما , كان وميض كما أسلفنا يعشق العرب والعروبة وتربى على مفاهيم وقيم الأمة العربية وكانت القومية العربية هاجسه الدائم ، وشغلته فلسطين العرب منذ نعومة أظفاره وهو يسمع أحاديث والده وعمه وأصدقائهما وهم يتحدثون عنها ، ومع أحاديثهم كبر عشق فلسطين عنده وزاد حقده على الصهيونية ودولتها التي أنشئت في فلسطين العرب ,
كان يعيش آلام النكبة والنكسة وكان يدين الجميع لعدم قدرتهم على تحقيق النصر .
جاء عام 1973 وهو يحمل البشرى أليه ، أية بشرى لهذا الشاب الفتي الذي لم تخبره الحياة ، الصلب الشكيمة بالكلام والحديث .
حرب تشرين 1973 فوجئ بها العراق ولم يسمع بها الا عبر محطات التلفاز حرب كادت تحطم اسوار العروبة من جديد بخسارة حرب اخرى ، الا ان العراق وبقيادته لم يتركوا هذا الامر ، بدأت جموع الجيش العراقي تزحف صوب دمشق ، اليات عسكرية كثيرة عجلاتها تشق الطريق نحو المجد ، دبابات عراقية تسيير على السرف مباشرة دون ناقلات مجازفة عسكرية اخرى كي تصل هذه القوات بأسرع ما يمكن وبأكبر عدد ممكن لأرض المعركه ، طائرات عراقية تغير ، اتصالات بين القيادات العراقية والعربية ، بيانات تصدر عبر تلفاز العراق ، الشارع العراقي متوتر ، الحركة في معسكرات الجيش العراقي دؤبة ، العوائل تفتقد ابنائها ، حالة انذار قصوى يشهدها العراق ، ايام عسيرة عاشها كبار السن وهم يسألون عن احفادهم اليتامى اين حل بهم الدهر .
هل لهذه الحرب من نهاية ؟ . تذكر وميض ذلك وهو جالس في شقته يعيش عذابات غربته ويجتر آلامها .
معارك ضارية خاضها الجيش العراقي مع العدو الصهيوني دفاعا عن دمشق العروبة والتي كادت تسقط لو لا اندفاع الجيش العراقي الباسل لانقاذها ، كل ذلك يسمعه وميض مع بقية العراقيين عبر بيانات القيادة العسكرية العراقية ومن محطات التلفاز فيفرح كثيرا لهذا النصر العظيم .
وحين اوقف قادة سوريا ومصر الحرب مع الكيان الصهيوني بشكل مفاجئ كادت الحسرة والحزن تقضيان على هذا الشاب اليافع وكأنها حطمت الفرح الذي سكن القلوب بالنصر .
وضعت الحرب اوزارها وعاد الجيش العراقي الى حضن الوطن وهو يسير في شوارع العراق حتى وصل العاصمة بغداد وكان الناس منتشرين في الشوارع يصفقون لهذا الجيش العظيم محتفلين بعودة الابطال الذين حققوا النصر للأمة العربية في هذه المعركة الباسلة ولم يكن هذا المشهد ليمر دون ان يترك وميض فيه بصمته ، وقف في الشارع العام امام كلية الفنون الجميلة في الوزيرية وقف بكل فخر يهتف للأبطال ويلقي بالحلوى والاخرين يلقون الورود ، كان مشهدا رائعا وتكريما يستحقه المقاتلون الابطال الذين رفعوا راية النصر .
تذكر وميض ذلك وهو يعيش الغربة بأقسى ما تكون ، ابتسم ثم حزن ، ابتسم للنصر الذي تحقق وحزن لغدر قيادة مصر وسوريا بأيقاف الحرب وعدم فسح المجال للجيش العراقي بأن ينجز تحرير الارض العربية .
ابتسم وحزن ، ابتسم لقوة وشهامة المقاتل العراقي واصراره على ارساء دعائم النصر ، وحزن على دماء الشهداء التي هدرت دون ان يتم النصر النهائي وتحرير كامل التراب .
هذه غربة يعيشها وميض ومن خلالها يستذكر كل سنين حياته بألم وحرقة وحسرة ودموع فهل لدموع الغربة من نهاية ؟ .
ـ 8 ـ
ما خطه القلم يوماً
كان وميض من المولعين بالكتابة وكان يخط بقلمهِ على صفحات دفتره مقطوعات توثق حدثا ما أو قضية مرت وكان سجل ذكرياته هذا اعز ما يملك ويحافظ عليه بعناية وحرص وبين دفتي الكتاب هذا كتب الكثير لفلسطين ولبنان وغيرهما .
فلسطين العرب كانت همه الدائم وشعبها كان يؤرق نومه كثيرا .
هذا الشعب الذي ذهب ضحية عدم إدراك القادة العرب لمسؤولياتهم .
فقد خط بقلمهِ أجمل ما كان يعبر عنه آنذاك وكان لا يتردد من أن يقرأ ذلك لأصدقائه أو يلقيه على مسامع الناس في المناسبات الوطنية والقومية فينال إعجابهم ويبدأ التصفيق لهذا الفتى الذي بمقتبل العمر والذي لامس بكلماته الوجع العربي ، الآم العربي , الدموع الساخنة للعرب محاولا ان يكفكف عنهم هذه الدموع ويعطيهم املا آخر لغد مشرق او اكثر اشراقا .
كان صوته الجهوري الهادر المنطلق في قاعات الاحتفال أو الساحات المكشوفة في شوارع بغداد يشق عنان الفضاء ويلامس مسامع الحاضرين وهو يترنم ويتغنى بالحروف العربية المنطلقة من شفتيه عبر جمل أكثر دقة وروعة فتشد السامع أليه شدا عبر سحر لا يوصف ، إصغاء تام ، وإلقاء مستمر وتوقف محسوب يعقبه تصفيق اشد روعة من روعة الإلقاء وتتعالى أصوات الحاضرين ( أعيد ... أعيد ) فيبدأ وميض بالإعادة ، تواصل روحي بين من يلقي كلماته وبين من يسمع وكأنهما نسيج واحد من الوطنية والقومية والإبداع ، حزن وآلم ، تصفيق بانفعال ، فرح وابتسامات وطلب إعادة لما يستحق ، كان هذا هو الأجر الذي يتقاضاه وميض هو حب الناس وتذكيرهم بقضية العرب الكبرى حيث كانت حاضرة في ذاكرته باستمرار .
ومن ضمن ما كتب هذه المقطوعة المعنونة ( فلسطين ) والتي دون حروفها وكلماتها وكأنه يعيش مخاض أبداع فانسابت الكلمات على الورق تجري من فم صديقه القلم بلا توقف ، فهل القلم هو الذي يكتب ام تداعيات وهواجس ومشاعر وميض توحي لذاكرته بأن تُسير القلم ليكتب ؟ .
خطها حرفا حرفا وكلمة كلمة وما ان انتهى منها اعاد قرائتها بتأني وبدأ يجري التعديلات عليها لتناسب الحدث ولتعطي للمضمون معناه الحقيقي .
فمشاعر الإنسان حين تسطر على الورق يقينا لا تأخذ المساحة الكاملة مما تستحق لأنه تعجز الكلمات عن الوصف ويتيه الكاتب بين المفردات .
ويتيه معه الوصف الكامل لما داخل نفسه ومشاعره ولكن الذي ينجز يكفي للتعبير واليكم نصها
فلسطيــــــــن
1973
فلسطين يا فؤادي
يا طريق وحدتي وعزي وشبابي
يا مولد أبائي وأجدادي
يا لحن أردده في الظلماتِ
فلسطين سنغسل العار عن جباهنا بدم الأبرار
سنرجع إلى ديارنا ... بدمِ الابرار
سنسقي أرضك بدمِ الأبطال
ونزجُ الكثير من الشهداء
سنجمع دم الثوار ونبدد الظلماء
ونصرخ صراخ الجياع
أرضنا ... ديارنا
أهلنا ... أحفادنا
ونحمي القدس بالدماء
سنعيدك إلى اهلك بتصفيق وغناء
يا لحن العروبة البيضاء
فلسطين يا فؤادي
يا طريق وحدتي وحبي وأخائي
**************
ويستمر وميض بالكتابة ويستمر نزف قلمه الذي يستقي مداده من نزف ضميره وعقله وذاكرته ، وتمر الأيام سريعة وتمر الأشهر أسرع وهو يعيش حالة التمرد على المفردات والكتابة وحالة العشق الأول والأخير لمعشوقة لا يمكن أن ينساها أبدا فهي تشغل قلبه وعقله وضميره ووجدانه ويسعى إليها رغم صعوبة الطريق ووعورته ويعمل من اجلها كل ما يستطيع ويضحي من اجلها ، هذه الحبيبة تستحق أكثر مما يقدم لها نعم تستحق أكثر ، كيف لا وهي فلسطين التي دنسها الكيان الصهيوني المسخ واحتل أرضها واغتصب مقدساتها وهجر أهلها .
وقد خصص وميض جل وقته لها وسخر قلمه من اجلها وكتب لها الكثير وهو شاب في مقتبل العمر لم يلجأ إلى كتابة مقاطع الغزل والحب وهو ابن السابعة عشر عاما بل كتب سياسياته لفلسطين ولقضية العرب وكأنه كان يعي حقيقة واحدة إن لا حب حقيقي ألا حب فلسطين قضية العرب والعمل من اجل تحريرها .
كان اقرأنه من الشباب يكتبون أجمل المقاطع للحب والغزل بالفتيات وكان يسمع ما يكتبون بلهفة وشوق ويتذوق ما يسمع من كلام جميل رصين من هذا وذاك وكان يبتسم ، فيستغربون ، ويسألوه لِمَ الابتسامة يا وميض .
ـ وميض : سمعت غزلكم وأطرب مسامعي
ـ زملائه : وماذا ستسمعنا أنت اليوم
ـ وميض : غزل من نوع خاص هو خلاصة صراع مع النفس واحتدام مشاعر وأحاسيس لا توصف لمحبوبة سكنت قلبي بل كياني
ـ زملائه: اسمعنا بالله عليك
ويلقي وميض على مسامعهم إحدى مختاراته وهي تتغنى بالعروبة وفلسطين ودموعه تسيل على وجنتيه ويستمر بالقراءة حتى يكمل ما كتب باندماج وتفاعل حقيقيين وكأنه يعيش حالة ما كتب .
فيتعجب سامعوه مما سمعوا يتغزل بفلسطين وينسى الحب وطعمه وينسى ما يطمح أليه الشباب ، أي عشق هذا الذي سلب الشاب عقله ووجدانه ، أي حب هذا الذي غُرس في قلب شاب حديث عهد بالحب والكتابة ، هذا الحب سيرهقه وسيشيخ قبل أوانه .
وتمر الأشهر سريعة هي الأخرى حتى يأتي عام 1975 فيكتب وميض هذا العام مقطوعته المعنونة ( ذكريات عند ناصية الموت ) نعم الموت عند وميض له شكل أخر فهو شهادة واستشهاد من اجل فلسطين والأمة العربية وينتقل وميض من مقطع إلى أخر منها فترتقي المشاعر والأحاسيس وتتبلور بالتصاعد إلى أن تصبح بركان غضب يشق عنان السماء ليسمع كلامه من به صمم .
وكأنه كان يحاكي الضمير الإنساني والضمير العربي ويقول لهم أن ما يتذكره الرجل قبل موته وهو يسلك طريق تحرير فلسطين المحاط بالمخاطر من كل الجوانب انه سائر إلى الاستشهاد من اجل عشيقته بكل رضا النفس وبقناعة تامة نعم هذا هو الموقف يناشد الشعب العربي بأن يتوحد ويثور من اجل قضية العرب .
وكأن الرجل يناشد الحكام والزعماء والملوك العرب ويقول كفاكم صمت وتخاذل وخنوع حفاظا على كراسي لن ولم تدوم أبدا .
وكأن الرجل قبل استشهاده يناشد اللاجئين الفلسطينيين ويطمئنهم على مستقبلهم حين يبشرهم بالعودة إلى ارض الآباء والأجداد حين يقول سنعود ... سنعود ... سنعود ، كلمات تزرع الأمل في نفوس من شرد ، كلمات تزرع الصبر في نفوس من هجر وسكن الخيام ، كلمات تحث العرب أينما كانوا بأن العودة حتمية لا محالة فاسعوا لها جاهدين ، كلمات يقع فعلها كفعل السوط على الأجساد على الحكام والزعماء والملوك العرب بحتمية الانتصار والعودة يوم لا ينفع كرسي صاحبه .
نعم العودة لا تكون إلا بثورة الشعب على من يتقلدون زمام الحكم فيهم ثم يتوجهوا من خلال هذه الثورة الشعبية صوب فلسطين العرب للتحرير وكأنه يؤكد للحكام والزعماء والملوك العرب بأن ثورة الشعب من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر ستحرق الكراسي والعروش وترسي دعائم الوحدة والتحرر وتعود فلسطين عربية أبدا كما كانت ، ولكي لا أطيل عليك عزيزي القارئ شغف قراءة هذه المقطوعة إليك نصها بالكامل
ذكريات عند ناصية الموت
1975
( 1 )
انتظرت الحرب طويلاً
ولكن لحد ألان لم تقرع الطبول
سلكت درب النضال طريقا
لتحرير وطني
رجموني بالحجارة ... علقوني بالحبال
القوا على جسدي قنبلة يدوية
انفجرت ... انفجرت
مزقت جسمي قطعت الحبال
تفتت الحجارة
سقطت أرضا وسال دمي على التراب
وصرخت ...
صرختُ بالأرض امتصي ما أستطعتي من دماء
أني لك فداء
( 2 )
عانقت سماء وطني
قبلت الماء والشجر
احتضنت الأطفال بسواعدي
دست جند الطغاة بأحذيتي
ولعنت ساعة القدر
وجعلت فلسطين رمز خلود
وهبته للوطن من المحيط إلى الخليج
رجموني بالحجارة ... علقوني بالحبال
ضربوني بالسياط
وضعوا في يدي الأغلال
قيدوني ...
وجعلوا القيد نار
صرخت بالأعداء زيدوا النار نار
فعقيدتي تزداد يوما بعد يوم
( 3 )
أنا ابن غزة ... فارسها المقدام
أنا ابن النيل ... بطلها الهمام
أنا ابن الرافدين ... قائدها الشجاع
سحقت العدى دمرت الخطوط والحواجز
رجموني بالحجارة... علقوني بالحبال
طعنوني بالسيوف
وضعوني في زنزانة
لا هوائي هواء
ولا مائي ماء
ولا منامي منام
فالزنزانة كلها ظلام
لا نور فيها ولا ضياء
لا خليل فيها ولا أصدقاء
( 4 )
كل يوم يدخل المحققين
أقلام وأوراق ومصورون
أرادوا مني اعتراف
جلدوني ... كوّني بالنار
حاولوا استنطاقي
لكن دون جدوى
سألوني عن اسمي
أجبتُ... ثوره
سألوني عن هويتي
أجبتُ... بندقية
سألوني عن شعبي
أجبتُ ... مشردين
سألوني بأي قطاع تسكنون
أجبت نسكن في كل الأقطار العربية
قالوا كيف
قلت نظرتنا قوميه
رجموني بالحجارة 000 علقوني بالحبال
صرختُ 00
صرخت لا يمكنكم إخماد بندقية
أنها ثورة عربية
والحق يأخذ بالبندقيه
( 5 )
الشعب في كل خيمة زرع بندقية
وفي كل تل زرع كمين
والشعب آمن بالنضال
ليعيد مجد حطين والقادسية
حين يزحف الأمل من غزة
إلى يافا وحيفا
يزحف أمل الثورة
يدخل النفوس الأبية
لتحمل كل يد بندقية
لتصنع فجر أخر
ليرجع اللاجئون إلى الديار
ليندثر مخيم أخر
فقلت للعدى ... إننا عائدون
رجموني بالحجارة ... علقوني بالحبال
سقوني من دمائي
أطعموني من لحمي
وبنوا لي من عظام الشهداء قبرا
أرادوا دفني قبل موتي
قلت لهم ...
وهل للحياة من نهاية غير الموت
حطموا عظامي
( قلعوا أظافري )
احرقوا لحمي
ونزف دمي
( 6 )
هناك في القدس يصلب المسيح
يحرق بنار العدى
وهناك في ارضي .. يتفجر البترول بركانا
وهناك في مخيماتنا.. تلتهب الرمال
ويولد فوق اللهيب إبطالا
تحديت جموع الطغاة
حطمت قيدي ... كسرت باب سجني
مزقت كفني ... حملت سلاحي
رجموني بالحجارة ... علقوني بالحبال
فبكت الجولان وبكت سيناء
شكت فلسطين مأساتها
واحتضنت السماء نجومها
وعبدنا الطريق بالدماء
وقلنا للعدى
( ساعة النصر قادمة فلا ريب )
سنعود رغم القيود فلا ريب
سنعود .. سنعود .. سنعود
*******************
ـ 9 ـ
هل يدرك الحب يوما
سؤال ردده أصحابه كثيرا، نشك في ذلك لقد نشأ وميض في بيت عز وغنى وتربى على المواقف الحميدة ورضع الوطنية والقومية منذ نعومة أظافره موقف نعرفه نحن ويعرفه أبائنا عن هذه العائلة التي تسكن محلتنا.
يستحيل أن يعرف الحب طريقه ونقصد حب المرأة .. العشق الذي يسعى أليه الرجال ... هذا ما قاله أصحابه ، فهل هم محقون بذلك ؟ .
سؤال سيجيب عليه الزمان بسنواته القادمة .
أن وميض يبقى أولا وأخرا إنسان بكل ما تعنيه هذه المفردة أي انه يحب ويكره ولديه مشاعر وأحاسيس وقلب ينبض لفعل الخير وللحب بكل أنواعه حب الوطن ، حب الأمة العربية التي أليها ينتمي ، حب فلسطين قضية العرب الكبرى ، حب المرأة .
تمر السنين ما بين عامي 1973 _ 1977 فترة تقارب الأربع سنوات وهو يكتب سياسياته لكل قضايا الأمة في حينها ، وكان عام الحسم 1977 حيث بلغ وميض من العمر أحدى وعشرون عاما هنا رق قلبه ورق لحب النساء لأول مرة بعد مخاض أربع سنين من التردد مع شابه جميلة داعبت شغاف قلبه وألهمته الغزل فراح يكتب هذه المرة للحب والعشق ، حب وعشق المرأة ، وتتسارع ضربات القلب حين يسمع صوتها ويهيم بها ويعيش حالة من الرومانسية المفرطة التي لم ولن يعرف طعمها سابقا وكأن قدره هذه المرة ان يكتب لكل النساء من خلال محبوبته .
وصديقيه القلم وفنجان القهوة يستغربان هذا التحول في حياة هذا الشاب ، ارتشف قليلا من فنجانه قليلا من القهوة العربية ثم مسك بصديقه القلم ليخط ولأول مرة مقاطع الغزل لمن يحب من النساء ، شعر صديقه القلم بتحول كبير في حياة حامله ، اليوم بدأ الحب يقسم على اثنين ، الحب الاول حب الامة ومعاناتها والكتابة من اجلها ، والحب الثاني حب النساء والتغزل بهنّ وتسائل القلم هل سيعطي وميض كل حب حقه من الكتابة والابداع ام سيؤثر احدهم على الاخر فتنتهي سياسياته مع بداية غزلياته .
ـ القلم : يا صديقي ماذا انت فاعل
ـ وميض : اكتب غزل لاول امرأة يهواها القلب
ـ القلم : وعشقك الابدي الذي كتبت له سنين خلت
ـ وميض : لن انساه ابداً خطان متوازيان لا يلتقيان .
ومع فرحة الحب واستذكار الحبيبه بدأ القلم يخط على الورق كلمات جميلات .
نابعة من قلب عاشق وعقل يحدد المسار الجديد في عالم الكتابة الذي يعيشه وميض فهل سيبدع في ذلك كما ابدع مع سابقاته ؟ .
واول ما خط قلمه عنوان مقطوعته " زهرة حب " وتحتها عام 1977 بعدها انسابت الحروف حرفا بعد حرف لتصبح كلمة وانسابت الكلمات كلمة بعد اخرى لتصبح جمل ذات معنى وتحولت الجمل في النهاية الى مقطوعة غزل رائعه تعبر عن مكنونات نفسية وهواجس حاملها وتزاحم مشاعره وتدافعها بين قلبه وعقله فخلد بها صورة جميلة من صور الغزل والعشق والوصف والتأمل .
شابة واحدة خفق لها قلبه الهمته كل هذا الحب والكتابة فهل سيستمر في سياسياته وغزلياته مبدعا في عالمه الذي اختاره عالم الكتابة الموحش الذي يحتاج الى التفرغ والاصغاء والقراءة والمتابعة والجهد الجهيد .
علاقة حب بدأت صدفة بلقاء سريع أعقبه اتصالات هاتفية كثيرة ، كان يعرف انه يحبها وكانت تعرف هي انه يعشقها لان طرفي العلاقة لن يبوح للأخر بهذا الحب فولد حبا عذريا وربما مات حبا عذريا أيضا .
" زهرة حب " رائعة أخرى من روائعه التي يعتز بها وميض الى يومنا هذا ونسمعه تنطلق من شفتيه وكأنها تخرج من صميم قلبه بلوعة المحب ولهفة العاشق واليك عزيزي القارئ نصها .
زهرة حـــب
أيا حبيبتي...
زهرة أنتِ في قلبي تفتحت
سقيتها من دمي حتى أينعت
ونقشت على جدران قلبي حروف اسمكِ
أن حبكِ بحرٌ
وعيناكِ ميناءُ
وأنا بين البحر والميناء ضائع
ضائع في أعماق البحر
ابحث عن منقذي
ضائع على أرصفة الميناء
انتظر عودتكِ
أنتِ منقذي يا حبيبتي
فعودي واسكني قلبي المعذب
وأطفئ النار المتأججة بين أضلعي
فعودي واسكني
أنتِ منقذي
أنتِ منقذي يا حبيبتي
1/1/1977
وحين قرأ وميض لأصحابه نص ما كتب فوجئوا باندهاش كبير لقد جاء جواب سؤالهم بعد مرور سنين من كتابة السياسيات ، جاء جواب سؤالهم نعم دخل حب المرأة قلب صاحبنا ، سمعوا بأنصات ، ثم علقوا على النص بتعجب ، ا يكون هذا ابداعا بهذا الرقي وانت تكتب لاول مرة في هذا الميدان ، فيأتيهم الجواب سريعا لقد فاض بي الشوق والعشق والحب وهاج عندي بحر المشاعر واضطرب وهاج محيط الاحاسيس بدفق الكلام فأنسابت كلماتي وهي تخرج من القلب الى القلب وتسطر على ورق لترسم صورة الغزل الحقيقي فما بالكم لا تستوعبون الدرس .
ـ 10 ـ
فرح لن يدوم
بعد الفرح الذي عم الارض العربية عام 1973 بعد حرب تشرين فرح الانتصار ، اصبح للعربي وزن اخر ، حجم اخر ، يليق به وبكرامته نعم للمرة الاولى في تأريخ العرب الحديث يحققوا هذا الانتصار العسكري على الصهيونية ومن خلفها الامبريالية الامريكية الداعمة والساندة لها في كل الميادين .
صراع ابدي بين قوى الخير وقوى الشر ، صراع ابدي بين امة العرب وبين الدول الطامعة بخيراتها وثرواتها منذ الازل ، ولو استعرضنا التأريخ لعرفنا هذه الحقائق من الرومان الى الفرس الى الاتراك الى الالمان والفرنسيين والانكليز وغيرهم الكل يحاول ان يدنس ارض العرب والسيطرة على موقعها وثرواتها ، الشعب العربي يكافح من اجل التحرير وفي النهاية ينتصر العرب وتنتصر ارادة الخير .
بعد هذه الفرحة التي تجسدت بدماء أبناء العراق وسوريا ومصر والعرب بعدها بأربعة سنين تذبح هذه الفرحة وتهزم أمام إرادة الشر فالعرب لم يخسروا حرباً أخرى ، بل الصهيونية حركة أقزامها وعملائها لذبح الفرح العربي فكانت رحلة العار التي قام بها محمد انور السادات رئيس مصر الى ( اسرائيل ) في 21/12/1977 لينهي بها هذا الفرح وليعم من جديد الحزن والالم ، لقد اضطرب الشارع العربي وماجت شوارعه بالرجال بتظاهرات تدين هذه الزيارة ، وتدين قزم من اقزام الامة يدعى السادات ، وتدين خط التخاذل للزعماء والقادة والملوك العرب .
خرجت التظاهرات تصدح في شوارع المدن العربية ومنها بغداد حيث يسكن وميض ، تعالت اصوات الرجال المتظاهرين تؤكد على وحدة الامة العربية ووحدة المصير ، وتهتف لفلسطين دعما لها ، تهتف لكل اللاجئين المشردين تشحذ الهمم ليوم النصر الاكيد ، تهتف للجموع العربية الثائرة ضد الزيارة وتطالبهم بسل السيوف لمقاتلة اعداء الامة اينما وجدوا ومن كانوا حكاما عرب او دول استعمار ، خرجت الجموع العربية تهدر بصوتها الجهوري في شوارع بغداد وكأنها تزحف نحو النصر زحفا ، تزاحمت المناكب ، وتدافع الرجال ليعبروا عن موقف قومي اصيل .
والقلم عند الكتاب والشعراء والادباء لم يكن بعيدا عن المد القومي العارم ولم ولن يدع رحلة العار تمر دون ان ينزف القلم شيئا لهذا الحدث الجلل ، فأبدع الشعراء والكتاب بكتاباتهم وكأنهم لم يكتبوا موضوعا وانما نزف مشاعر واحاسيس وكلام يخرج من القلب الى القلم مباشرة لينساب القلم بنزفه على الورق ويخط رائعة من روائعهم ، لتقرع مسامع من به صمم .
فمن تربعوا على عروش الامة حكاما وملوك وزعماء واقزاما ساروا في ركب العمالة والخيانة لمبادئ الامة وقيمها ، وخانوا تأريخها ، وخانوا حضارتها واصالتها ، وخانوا الخير الذي فيها .
وميض واحد من الذين نزف قلمهم شيئا يسيرا يدين هذه الرحلة ويخلد تأريخا كي لا ننسى خيانة القيادات العربية وبمن بنا قدغدروا وحولوا نصر الامة الى هزيمة ، وعمقوا جراح الامة لتنزف حتى الموت او الى يوم يأذن به الله ويعيد لهذا الشعب هيبته ويعيد لهذه الامة مكانتها .
سطر قلم وميض مقطوعة بعنوان رحلة العار بتأريخ 21/12/1977 يوم الرحلة المشئومة واليكم نصها
رحلة العــــــــــــار
سار الركب فأتبعناه سائرينا
ومضت قوافل الجند للتحرير
فمضينا معها محررينا
وصنعنا ملحمة لكل المناضلين
فما تشرين ألا شهر زحفت به الأجيال
لتعيد في ذكراه ملحمة الأبطال
وما تشرين ألا تاج من اللؤلؤ الثمين
أمير كل الشهور
تاج فوق رؤوس الشهداء
وقنديل به الدرب يُضاء
وقناديل الدرب من الشهداء لا تحصى
مرت عدة أعوام
والخونة لا تبصر ولا ترى
غير مصافحة الأعداء مدخلا
أي مدخل هذا وفي أعماقه عارا
فعار لمن صافح العدى
وتناسى أمة بأكملها أي قائد هذا
ومن به من أبناء العروبة يقتدي
بل مَنْ مِن أبناء العروبة به قائدا يرتضى
نبذوه والقوا به على مزبلة التاريخ
حكم الشعب عليه بالموت
وحكم الشعب لا هوادة به أبدا
هو الشعب صاحب الحق
صاحب الكلمة
مضى في رحلة العار يحسبها انتصارا
أي انتصارا جناه التي بها...
عروش الطغيان تتهاوى
والشعب ضد الزيارة ثار
أبناء العروبة ترفض الزائر الخائن
وتصدر بحقه الأحكام
القوا به على مزبلة التاريخ
وحكموا عليه بالموت
وحكم الشعب لا هوادة به أبدا
21/12/ 1977
فهل كان وميض محقاً حين سطر هذه الحروف ، وهل عبر بعمق عن مشاعر الملايين العربية التي خرجت في الشوارع ؟ .